الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْوَجْدُ مَعْنَاهُ: لَهَبٌ يَتَأَجَّجُ مِنْ شُهُودِ عَارِضِ الْقَلَقِ. لَمَّا كَانَ الْوُجُودُ أَعْلَى مِنَ الْوَجْدِ جُعِلَ سَبَبُ الْوَجْدِ شُهُودًا عَارِضًا. وَجُعِلَ الْوُجُودُ نَفْسَ الظَّفَرِ بِالشَّيْءِ، كَمَا سَيَأْتِي. وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهَبَ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمَّا شَهِدَ مَحْبُوبَهُ: أَوْرَثَهُ ذَلِكَ لَهِيبَ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَلَمَّا لَمْ يَظْفَرْ بِهِ أَوْرَثَهُ الْقَلَقَ. فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ لَهِيبًا مُقْلِقًا. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْوَجْدُ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: وَجْدٌ عَارِضٌ يَسْتَفِيقُ لَهُ شَاهِدُ السَّمْعِ، أَوْ شَاهِدُ الْبَصَرِ، أَوْ شَاهِدُ الْفِكْرِ. أَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ أَثَرًا أَوْ لَمْ يُبْقِ. قَوْلُهُ " وَجْدٌ عَارِضٌ " أَيْ مُتَجَدِّدٌ. لَيْسَ بِلَازِمٍ " يَسْتَفِيقُ لَهُ شَاهِدُ السَّمْعِ " أَيْ يَنْتَبِهُ السَّمْعُ مِنْ سِنَتِهِ لِوُرُودِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُنَبِّهُ لَهُ خِطَابًا مِنْ خَارِجٍ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ. وَأَمَّا " إِفَاقَةُ شَاهِدِ الْبَصَرِ " فَلِمَا يَرَاهُ وَيُعَايِنُهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. فَيَنْتَقِلُ مِنْهَا إِلَى مَا نُصِبَتْ آيَةً لَهُ وَعَلَيْهِ. وَأَمَّا " إِفَاقَةُ شَاهِدِ الْفِكْرِ " فَفِيمَا يُفْتَحُ لَهُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهَا فِكْرُهُ وَتَأَمُّلُهُ. وَهَذِهِ الشَّوَاهِدُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي دَعَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ إِلَى تَبَيُّنِهَا وَالِاسْتِشْهَادِ بِهَا وَقَبُولِ الْحَقِّ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ وَتَرْتِيبِ حُكْمِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وقال: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا. فَإِذَا اسْتَفَاقَ شَاهِدُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفِكْرِ، وَوَجَدَ الْقَلْبُ حَلَاوَةَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ: خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ النِّيَامِ الْغَافِلِينَ. قَوْلُهُ " أَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ أَثَرًا أَوْ لَمْ يُبْقِ " يَعْنِي: أَنَّ ذَلِكَ الْوَجْدَ الْعَارِضَ قَدْ يُبْقِي عَلَى وَاجِدِهِ أَثَرًا مِنْ أَحْكَامِهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ. وَقَدْ لَا يُبْقِي. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُبْقِيَ أَثَرًا، لَكِنْ قَدْ يَخْفَى وَيَنْغَمِرُ بِمَا يُعْقِبُهُ بَعْدَهُ، وَيُخْلِفُهُ مِنْ أَضْدَادِهِ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: وَجْدٌ تَسْتَفِيقُ لَهُ الرُّوحُ بِلَمْعِ نُورٍ أَزَلِيٍّ. أَوْ سَمَاعِ نِدَاءٍ أَوَّلِيٍّ، أَوْ جَذْبٍ حَقِيقِيٍّ. إِنْ أَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ لِبَاسَهَ، وَإِلَّا أَبْقَى عَلَيْهِ نُورَهُ. إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْوَجْدُ أَعْلَى مِنَ الْوَجْدِ الْأَوَّلِ: لِأَنَّ مَحَلَّ الْيَقَظَةِ فِيهِ هُوَ الرُّوحُ، وَمَحَلُّهَا فِي الْأَوَّلِ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْفِكْرُ. وَالرُّوحُ هِيَ الْحَامِلَةُ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفِكْرِ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ مِنْ صِفَاتِهَا. وَأَيْضًا فَلَعَلَّ وَجْدَ الرُّوحِ سَبَبٌ آخَرُ. وَهُوَ عُلُوُّ مُتَعَلَّقِهِ، فَإِنَّ مُتَعَلَّقَ وَجْدِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفِكْرِ: الْآيَاتُ وَالْبَصَائِرُ. وَمُتَعَلَّقَ وَجْدِ الرُّوحِ: تَعَلُّقُهَا بِالْمَحْبُوبِ لِذَاتِهِ. وَلِذَلِكَ جُعِلَ سَبَبُهُ " لَمْعَ نُورٍ أَزَلِيٍّ " يَعْنِي شُهُودَهَا لَمْعَ نُورِ الْحَقِيقَةِ الْأَزَلِيِّ. وَهَذَا الشُّهُودُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلسَّمْعِ وَلَا لِلْبَصَرِ وَلَا لِلْفِكْرِ. بَلْ تَسْتَنِيرُ بِهِ الْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ. لِأَنَّ الرُّوحَ لَمَّا اسْتَنَارَتْ بِهَذِهِ الْيَقَظَةِ وَالْإِفَاقَةِ. ثُمَّ اسْتَنَارَتْ بِنُورِهَا الْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ. لَا سِيَّمَا وَصَاحِبُهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ إِنَّمَا يَسْمَعُ بِاللَّهِ وَيُبْصِرُ بِهِ. وَإِذَا كَانَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَبَطْشُهُ بِاللَّهِ، فَمَا الظَّنُّ بِحَرَكَةِ رُوحِهِ وَقَلْبِهِ وَأَحْكَامِهَا؟ وَقَوْلُهُ " أَوْ سَمَاعِ نِدَاءٍ أَوَّلِيٍّ " إِنْ أَرَادَ بِهِ: تَعَرُّفَ الْحَقِّ تَعَالَى إِلَى عِبَادِهِ بِوَاسِطَةِ الْخِطَابِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ- وَهَذَا هُوَ الْخِطَابُ الْأَزَلِيُّ- فَصَحِيحٌ. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ: خِطَابَ الْمَلِكِ لَهُ: فَلَيْسَ بِخِطَابٍ أَزَلِيٍّ. وَإِنْ أَرَادَ مَا سَمِعَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْخِطَابِ: فَهُوَ خِطَابٌ وَهْمِيٌّ. وَإِنْ ظَنَّهُ أَزَلِيًّا. فَإِيَّاكَ وَالْأَوْهَامَ وَالْغُرُورَ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْوُجُودَ، وَلَا نَدْفَعُ الشُّهُودَ. وَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ مَعَ الْقَوْمِ فِي رُتْبَتِهِ وَإِنْشَائِهِ، وَمِنْ أَيْنَ بَدَأَ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَعُودُ؟ فَلَا نُنْكِرُ وَاعِظَ اللَّهِ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ. وَلَكِنْ ذَلِكَ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ جَعَلَهُ اللَّهُ وَاعِظًا لَهُ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، وَيُنَادِيهِ وَيُحَذِّرُهُ، وَيُبَشِّرُهُ وَيُنْذِرُهُ. وَهُوَ الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُو فَوْقَ الصِّرَاطِ. وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ. كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا: صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا. وَعَلَى جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ. وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرَخْاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ، وَدَاعٍ يَدْعُو فَوْقَ الصِّرَاطِ. فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الْإِسْلَامُ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ. فَلَا يَقَعُ أَحَدٌ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ حَتَّى يَكْشِفَ السِّتْرَ. وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ. وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ. فَمَا ثَمَّ خِطَابٌ قَطُّ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ: إِمَّا خِطَابُ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا خِطَابُ هَذَا الْوَاعِظِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الرُّوحُ قَدْ تَتَجَرَّدُ وَيَقْوَى تَعَلُّقُهَا بِالْحَقِّ تَعَالَى. بَلْ قَدْ تَتَلَاشَى بِمَا سِوَاهُ. وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ نَوْعُ غَيْبَةٍ مِنْ حِسِّهِ، وَيَقْوَى دَاعِي هَذَا الْوَاعِظِ. وَيَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِهِ وَرُوحِهِ، بِحَيْثُ يَمْتَلِئُ بِهِ، فَتُؤَدِّيهِ الرُّوحُ إِلَى الْأُذُنِ، فَيَخْرُجُ عَنِ الْأُذُنِ إِلَيْهَا. إِذْ هِيَ مَبْدَؤُهُ. وَإِلَيْهَا يَعُودُ، فَيَظُنُّهُ خِطَابًا خَارِجًا. وَيَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ ضِعْفِ الْعِلْمِ وَمَعْرِفَةِ الْمَرَاتِبِ. فَيَنْشَأُ الْغَلَطُ وَالْوَهْمُ. قَوْلُهُ " أَوْ جَذْبٌ حَقِيقِيٌّ " يَعْنِي: أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ هَذَا الْوَجْدِ جَذْبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ، اسْتَفَاقَتْ لَهَا رُوحُهُ مِنْ مَنَامِهَا. وَحَيِيَتْ بِهَا بَعْدَ مَمَاتِهَا. وَاسْتَنَارَتْ بِهَا بَعْدَ ظُلُمَاتِهَا. فَالْوَجْدُ خِلْعَةُ هَذِهِ الْجَذْبَةِ. قَوْلُهُ: إِنْ أَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ لِبَاسَهُ، وَإِلَّا أَبْقَى عَلَيْهِ نُورَهُ يُرِيدُ بِلِبَاسِهِ مَقَامَهُ، يَعْنِي إِنْ أَبْقَى عَلَيْهِ تَحَقُّقَ مَقَامِهِ فِيهِ، وَإِلَّا أَبْقَى عَلَيْهِ أَثَرَهُ. فَمَقَامُهُ يُورِثُهُ عِزًّا وَمَهَابَةً وَخِلَافَةَ نُبُوَّةٍ، وَمَنْشُورَ صِدِّيقِيَّةٍ. وَأَثَرُهُ يُورِثُهُ حَلَاوَةً وَسَكِينَةً، وَأُنْسًا فِي نَفْسِهِ وَأُنْسًا لِلْقُلُوبِ بِهِ، وَهَوَى الْأَفْئِدَةِ إِلَيْهِ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: وَجْدٌ يَخْطِفُ الْعَبْدَ مِنْ يَدِ الْكَوْنَيْنِ. وَيُمَحِّصُ مَعْنَاهُ مِنْ دَرَنِ الْحَظِّ، وَيَسْلُبُهُ مِنْ رِقِّ الْمَاءِ وَالطِّينِ، إِنْ سَلَبَهُ أَنْسَاهُ اسْمَهُ. وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ أَعَارَهُ رَسْمَهُ. فَقَوْلُهُ " يَخْطِفُ الْعَبْدَ مِنْ يَدِ الْكَوْنَيْنِ " أَيْ يُغْنِيهِ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ كَوْنَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَيَخْتَطِفُ الْقَلْبَ مِنْ شُهُودِ هَذَا وَهَذَا بِشُهُودِ الْمُكَوِّنِ. قَوْلُهُ " وَيُمَحِّصُ مَعْنَاهُ مِنْ دَرَنِ الْحَظِّ " أَيْ يُخَلِّصُ عُبُودِيَّتَهُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَتُهُ وَسِرُّهُ مِنْ وَسَخِ حُظُوظِ نَفْسِهِ وَإِرَادَاتِهَا الْمُزَاحِمَةِ لِمُرَادِ رَبِّهِ مِنْهُ. فَإِنَّ تَحْقِيقَ الْعُبُودِيَّةِ- الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْعَبْدِ- لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَقْدِ النَّفْسِ الْحَامِلَةِ لِلْحُظُوظِ. فَمَتَى فَقَدَتْ حُظُوظَهَا تَمَحَّصَتْ عُبُودِيَّتُهَا. وَكُلَّمَا مَاتَ مِنْهَا حَظٌّ حَيِيَ مِنْهَا عُبُودِيَّةٌ وَمَعْنًى. وَكُلَّمَا حَيِيَ فِيهَا حَظٌّ مَاتَتْ عُبُودِيَّةٌ، حَتَّى يَعُودَ الْأَمْرُ عَلَى نَفْسَيْنِ وَرُوحَيْنِ وَقَلْبَيْنِ: قَلْبٌ حَيٌّ، وَرُوحٌ حَيَّةٌ بِمَوْتِ نَفْسِهِ وَحُظُوظِهَا، وَقَلْبٌ مَيِّتٌ، وَرُوحٌ مَيِّتَةٌ بِحَيَاةِ نَفْسِهِ وَحُظُوظِهِ. وَبَيْنَ ذَلِكَ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَبَيْنَ بَيْنَ، لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ " وَيَسْلُبُهُ مِنْ رِقِّ الْمَاءِ وَالطِّينِ " أَيْ يُعْتِقُهُ وَيُحَرِّرُهُ مِنْ رِقِّ الطَّبِيعَةِ وَالْجِسْمِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، إِلَى رِقِّ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَخَادِمُ الْجِسْمِ الشَّقِيُّ بِخِدْمَتِهِ عَبَدَ الْمَاءَ وَالطِّينَ، كَمَا قِيلَ: يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ *** فَأَنْتَ بِالرُّوحِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَةٌ: عَبْدٌ مَحْضٌ. وَحُرٌّ مَحْضٌ، وَمُكَاتِبٌ قَدْ أَدَّى بَعْضَ كِتَابَتِهِ. وَهُوَ يَسْعَى فِي بَقِيَّةِ الْأَدَاءِ. فَالْعَبْدُ الْمَحْضُ هُوَ: عَبْدُ الْمَاءِ وَالطِّينِ الَّذِي قَدِ اسْتَعْبَدَتْهُ نَفْسُهُ وَشَهْوَتُهُ، وَمَلَكَتْهُ وَقَهَرَتْهُ. فَانْقَادَ لَهَا انْقِيَادَ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدِهِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ. وَالْحُرُّ الْمَحْضُ هُوَ: هُوَ الَّذِي قَهَرَ شَهْوَتَهُ وَنَفْسَهُ وَمَلَكَهَا. فَانْقَادَتْ مَعَهُ، وَذَلَّتْ لَهُ وَدَخَلَتْ تَحْتَ رِقِّهِ وَحُكْمِهِ. وَالْمُكَاتِبُ هُوَ: مَنْ قَدْ عُقِدَ لَهُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ. وَهُوَ يَسْعَى فِي كَمَالِهَا. فَهُوَ عَبْدٌ مِنْ وَجْهٍ حُرٌّ مِنْ وَجْهٍ. وَبِالْبَقِيَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدَاءِ يَكُونُ عَبْدًا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. فَهُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ حَظٌّ مِنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ. فَالْحُرُّ مَنْ تَخَلَّصَ مِنْ رِقِّ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَفَازَ بِعُبُودِيَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَاجْتَمَعَتْ لَهُ الْعُبُودِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ. فَعُبُودِيَّتُهُ مِنْ كَمَالِ حُرِّيَّتِهِ، وَحُرِّيَّتُهُ مِنْ كَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ. قَوْلُهُ: إِنْ سَلَبَهُ أَنْسَاهُ اسْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ أَعَارَهُ رَسْمَهُ، أَيْ هَذَا الْوَجْدُ إِنْ سَلَبَ صَاحِبَهُ بِالْكُلِّيَّةِ: فَأَفْنَاهُ عَنْهُ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ: أَنْسَاهُ اسْمَهُ. لِأَنَّ الِاسْمَ تَبَعٌ لِلْحَقِيقَةِ. فَإِذَا سَلَبَ الْحَقِيقَةَ نَسِيَ اسْمَهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ أَبْقَى مِنْهُ رَسْمًا، فَهُوَ مُعَارٌ عِنْدَهُ بِصَدَدِ الِاسْتِرْجَاعِ. فَإِنَّ الْعَوَارِيَ يُوشِكُ أَنْ تُسْتَرَدَّ. وَيُشِيرُ بِالْأَوَّلِ: إِلَى حَالَةِ الْفَنَاءِ الْكَامِلِ. وَبِالثَّانِي: إِلَى حَالَةِ الْغَيْبَةِ الَّتِي يَؤُوبُ مِنْهَا غَائِبُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَعْرِضُ لِلسَّالِكِ دَهْشَةٌ فِي حَالِ سُلُوكِهِ، شَبِيهَةٌ بِالْبَهْتَةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ رُؤْيَةِ مَحْبُوبِهِ. وَلَيْسَتْ مِنْ مَنَازِلِ السُّلُوكِ. خِلَافًا لِأَبِي إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ حَيْثُ جَعَلَهَا مِنَ الْمَنَازِلِ. بَلْ مِنْ غَايَاتِهَا. فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَيْسَتْ مَذْكُورَةً فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي كَلَامِ السَّالِكِينَ. وَلَا عَدَّهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالْمَقَامَاتِ. وَلِهَذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتَشْهِدُ بِهِ عَلَيْهَا سِوَى حَالِ النِّسْوَةِ مَعَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ. فَصَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أَيْ أَعْظَمْنَهُ. فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ: مَا حَصَلَ لَهُنَّ مِنْ إِعْظَامِهِ وَإِجْلَالِهِ: فَذَلِكَ مَنْزِلَةُ التَّعْظِيمِ. وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ: مَا تَرَتَّبَ عَلَى رُؤْيَتِهِ لَهُنَّ، مِنْ غَيْبَتِهِنَّ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ وَعَنْ أَيْدِيهِنَّ، وَمَا فِيهَا حَتَّى قَطَّعْنَهَا: فَتِلْكَ مَنْزِلَةُ الْفَنَاءِ. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ: الدَّهْشَةَ وَالْبَهْتَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُنَّ عِنْدَ مُفَاجَأَتِهِ- وَهُوَ الَّذِي قَصَدَهُ- فَذَلِكَ أَمْرٌ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ مَا يَغْلِبُ عَلَى صَبْرِ الْإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ لَيْسَ بِمَقَامٍ لِلسَّالِكِينَ، وَلَا مَنْزِلٍ مَطْلُوبٍ لَهُمْ. فَعَوَارِضُ الطَّرِيقِ شَيْءٌ. وَمَنَازِلُهَا وَمَقَامَاتُهَا شَيْءٌ. فَلِهَذَا قَالَ فِي تَعْرِيفِهِ الدَّهْشَ مَعْنَاهُ: بَهْتَةٌ تَأْخُذُ الْعَبْدَ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ مَا يَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ، أَوْ صَبْرِهِ، أَوْ عِلْمِهِ. يُشِيرُ إِلَى الشُّهُودِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ، وَالْحُبِّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى صَبْرِهِ، وَالْحَالِ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَى عِلْمِهِ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ لِدَهْشَةِ الْمُرِيدِ. الْأُولَى: دَهْشَةُ الْمُرِيدِ عِنْدَ صَوْلَةِ الْحَالِ عَلَى عِلْمِهِ، وَالْوَجْدِ عَلَى طَاقَتِهِ، وَالْكَشْفِ عَلَى هِمَّتِهِ يَعْنِي: أَنَّ عِلْمَهُ يَقْتَضِي شَيْئًا، وَحَالَهُ يَصُولُ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ. فَهَذَا غَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُفْرِطًا. فَإِنَّ الْحَالَ لَا يَصُولُ عَلَى الْعِلْمِ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا فَاسِدٌ. إِمَّا الصَّائِلُ، أَوِ الْمَصُولُ عَلَيْهِ. فَإِذَا اقْتَضَى الْعِلْمُ سُكُونًا، فَصَالَ عَلَيْهِ الْحَالُ بِحَرَكَتِهِ: فَهِيَ حَرَكَةٌ فَاسِدَةٌ. غَايَةُ صَاحِبِهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا لَا مَشْكُورًا. فَإِذَا اقْتَضَى الْعِلْمُ حَرَكَةً، فَصَالَ الْحَالُ عَلَيْهِ بِسُكُونِهِ: فَهُوَ سُكُونٌ فَاسِدٌ. مِثَالُ الْأَوَّلِ: اقْتِضَاءُ الْعِلْمِ لِلسُّكُونِ وَالْخُشُوعِ عِنْدَ وَارِدِ السَّمَاعِ الْقُرْآنِيِّ. وَصَوْلَةُ الْحَالِ عَلَيْهِ، حَتَّى يَزْعَقَ وَيَشُقَّ ثِيَابَهُ، أَوْ يُلْقِي نَفْسَهُ لِوُرُودِ مَا يُدْهِشُهُ مِنْ مَعَانِي الْمَسْمُوعِ عَلَى قَلْبِهِ. فَيَصُولُ حَالُهُ عَلَى عَمَلِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي صَلَاةِ فَرْضٍ، لَأَبْطَلَهَا وَقَطَعَهَا. وَمِثَالُ الثَّانِي: اقْتِضَاءُ الْعِلْمِ حَرَكَةً مُفَرَّقَةً فِي رِضَا الْمَحْبُوبِ. فَيَصُولُ الْحَالُ عَلَيْهَا بِسُكُونِهِ وَجَمْعِيَّتِهِ، حَتَّى يَقْهَرَهَا. وَهَذِهِ مِنْ مَقَاطِعِ الْقَوْمِ وَآفَاتِهِمْ. وَمَا نَجَا مِنْهَا إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ، الْعَامِلُونَ عَلَى تَجْرِيدِ الْعُبُودِيَّةِ. وَكَثْرَةُ صُوَرِ هَذَا مُغْنِيَةُ عَنْ كَثْرَةِ الْأَمْثِلَةِ. فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يُقَدِّمُ حَالَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْأَغْيَارِ وَالْأَعْدَاءِ فِي الْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَيَصُولُ حَالُ الْجَمْعِيَّةِ عِنْدَهُ عَلَى الْحَرَكَةِ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْعِلْمُ. كَمَا صَالَتْ حَرَكَةُ الْأَوَّلِ عَلَى السُّكُونِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ الْعِلْمُ. قَوْلُهُ " وَالْوَجْدُ عَلَى الطَّاقَةِ " يَعْنِي: أَنَّ وَجْدَ الْمُحِبِّ رُبَّمَا غَلَبَ صَبْرَهُ. وَصَالَ عَلَى طَاقَتِهِ. فَصَرَخَ إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَاسْتَغَاثَ بِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِهِ. بَلْ صُرَاخُهُ بِهِ وَاسْتِغَاثَتُهُ بِهِ عَيْنُ نَصْرِهِ إِيَّاهُ، حَيْثُ حَفِظَ عَلَيْهِ وَجْدَهُ. وَلَمْ يَرُدَّهُ فِيهِ إِلَى صَبْرٍ يَسْلُو بِهِ وَيَجْفُو. فَيَكُونُ ذَلِكَ نَوْعُ طَرْدٍ. قَوْلُهُ " وَالْكَشْفِ عَلَى هِمَّتِهِ " يَعْنِي أَنَّ الْهِمَّةَ تَسْتَدْعِي صِدْقَ الطَّلَبِ وَدَوَامَهُ، وَالْكَشْفُ مَعْنَاهُ: هُوَ الشُّهُودُ. وَهُوَ فِي مَظِنَّةِ فَسْخِ الْهِمَّةِ وَإِبْطَالِ حُكْمِهَا. لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الطَّلَبَ. وَهُوَ يَقْتَضِي الْفُتُورَ. لِأَنَّ الطَّلَبَ لِلْغَائِبِ عَنِ الْمَطْلُوبِ، فَهِمَّتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَحْصِيلِهِ. وَصَاحِبُ الْكَشْفِ: فِي حُضُورٍ مَعَ مَطْلُوبِهِ. فَكَشْفُهُ صَائِلٌ عَلَى هِمَّتِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا بَرَقَتْ بَارِقَةٌ مِنْ بَوَارِقِ الْحَقِيقَةِ لَمْ يَبْقَ مَعَهَا حَالٌ وَلَا هِمَّةٌ. وَهَذَا أَيْضًا عَارِضٌ مَطْلُوبُ الزَّوَالِ. وَالْبَقَاءُ مَعَهُ انْقِطَاعٌ كُلِّيٌّ. فَإِنَّ السَّالِكَ فِي هِمَّةٍ، مَا دَامَتْ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ. فَإِذَا فَارَقَتْهُ الْهِمَّةُ انْقَطَعَ وَاسْتَحْسَرَ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: دَهْشَةُ السَّالِكِ عِنْدَ صَوْلَةِ الْجَمْعِ عَلَى رَسْمِهِ، وَالسَّبْقِ عَلَى وَقْتِهِ، وَالْمُشَاهَدَةِ عَلَى رُوحِهِ الْجَمْعُ عِنْدَ الْقَوْمِ: مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ. وَقَطَعَ الْإِشَارَةَ. وَبَايَنَ الْكَائِنَاتِ. وَ " رَسْمُ " الْعَبْدِ عِنْدَهُمْ: هُوَ صُورَتُهُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ. فَشُهُودُ الْجَمْعِ: يَقْتَضِي أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى فَنَاءِ تِلْكَ الرُّسُومِ فِيهِ. فَلِلْجَمْعِ صَوْلَةٌ عَلَى رَسْمِ السَّالِكِ، يَغْشَاهُ عِنْدَهُمْ بَهْتَةٌ، هِيَ الدَّهْشَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا. وَأَمَّا صَوْلَةُ السَّبْقِ عَلَى وَقْتِهِ فَالسَّبْقُ: هُوَ الْأَزَلُ. وَهُوَ سَابِقٌ عَلَى وَقْتِ السَّالِكِ. وَإِنَّمَا صَالَ الْأَزَلُ عَلَى وَقْتِهِ: لِأَنَّ وَقْتَهُ حَادِثٌ فَانٍ. فَهُوَ يَرَى فَنَاءَهُ فِي بَقَاءِ الْأَزَلِ وَسَبْقِهِ، فَيَغْلِبُهُ شُهُودُ السَّبْقِ، وَيَقْهَرُهُ عَلَى شُهُودِ وَقْتِهِ، فَلَا يَتَّسِعُ لَهُ. وَأَمَّا صَوْلَةُ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى رُوحِهِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُشَاهَدَةُ تَعَلُّقُ إِدْرَاكِ الرُّوحِ بِشُهُودِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَهِيَ شُهُودُ الْحَقِّ بِالْحَقِّ- كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ- اقْتَضَى هَذَا الشُّهُودُ صَوْلَةً عَلَى الرُّوحِ. فَحَيْثُ صَارَ الْحُكْمُ لَهُ دُونَهَا: انْطَوَى حُكْمُ الشَّاهِدِ فِي شُهُودِهِ. وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِي ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: دَهْشَةُ الْمُحِبِّ عِنْدَ صَوْلَةِ الِاتِّصَالِ عَلَى لُطْفِ الْعَطِيَّةِ، وَصَوْلَةِ نُورِ الْقُرْبِ عَلَى نُورِ الْعَطْفِ، وَصَوْلَةِ شَوْقِ الْعِيَانِ عَلَى شَوْقِ الْخَبَرِ. الِاتِّصَالُ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ: اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ، وَاتِّصَالُ الشُّهُودِ، وَاتِّصَالُ الْوُجُودِ، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَبَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، يَجِلُّ عَنْهُ جَنَابُ الْحَقِّ تَعَالَى. وَ " الْعَطِيَّةُ " هَاهُنَا: هِيَ الْوَارِدَاتُ الَّتِي تَرِدُ فِي لُطْفٍ وَخَفَاءٍ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ تَعَالَى. وَهِيَ أَلْطَافٌ يُعَامِلُ الْمَحْبُوبُ بِهَا مُحِبَّهُ، وَتُوجِبُ قُرْبًا خَالِصًا هُوَ الْمُسَمَّى بِالِاتِّصَالِ. فَيَصُولُ ذَلِكَ الْقُرْبُ عَلَى لُطْفِ الْعَطِيَّةِ. فَيَغِيبُ الْعَبْدُ عَنْهَا وَعَنْ شُهُودِهَا. وَيُنْسِيهِ إِيَّاهَا. لِمَا أَوْجَبَهُ لَهُ ذَلِكَ الْقُرْبُ مِنَ الدَّهْشِ. وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ: تَوَاتُرَ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا عَلَيْهِ، حَتَّى يُدْهِشَهُ كَثْرَتُهَا وَتَنَوُّعُهَا. فَتُوجِبُ لَهُ كَثْرَتُهَا دَهْشَةً، تَمْنَعُهُ مِنْ مُطَالَعَتِهَا، مَعَ انْضِمَامِ ذَلِكَ إِلَى صَوْلَةِ الْقُرْبِ. وَهِيَ وَارِدَاتٌ وَأَنْوَارٌ يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. تَمْحُو ظُلَمَ نَفْسِهِ وَرَسْمَهُ. وَأَمَّا صَوْلَةُ نُورِ الْقُرْبِ عَلَى نُورِ الْعَطْفِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا. أَوْ هُوَ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا كُرِّرَ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ. فَإِنَّ لُطْفَ الْعَطِيَّةِ كُلَّهُ نُورُ عَطْفٍ، وَالِاتِّصَالُ هُوَ الْقُرْبُ نَفْسُهُ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ اتِّصَالٍ يَتَوَهَّمُهُ مَلَاحِدَةُ الطَّرِيقِ وَزَنَادِقَتُهُمْ. وَأَمَّا صَوْلَةُ شَوْقِ الْعِيَانِ عَلَى شَوْقِ الْخَبَرِ. فَمُرَادُهُ بِهَا: أَنَّ الْمُرِيدَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ سَالِكٌ عَلَى شَوْقِ الْخَبَرِ فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ. فَإِذَا تَرَقَّى عَنْهُ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهُ: بَقِيَ شَوْقُهُ بِشَوْقِ الْعِيَانِ. فَصَالَ هَذَا الشَّوْقُ عَلَى الشَّوْقِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ، وَإِلَّا فَالْعِيَانُ فِي الدُّنْيَا لَا سَبِيلَ لِلْبَشَرِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ. وَمَنْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ: أَنْ يَكُونَ مَلْبُوسًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ فَوْقَ الْإِحْسَانِ لِلصِّدِّيقِينَ مَرْتَبَةٌ إِلَّا بَقَاؤُهُمْ فِيهِ. فَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ عِيَانًا فَالتَّسْمِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُخْلَصَةُ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا أَوْلَى وَأَحْرَى. وَأَكْثَرُ آفَاتِ النَّاسِ مِنَ الْأَلْفَاظِ. وَلَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَعِزُّ فِيهَا تَصَوُّرُ الْحَقِّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَالتَّعْبِيرُ الْمُطَابِقُ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ضَعْفِ التَّصَوُّرِ، وَقُصُورِ التَّعْبِيرِ: نَوْعُ تَخْبِيطٍ. وَيَتَزَايَدُ عَلَى أَلْسِنَةِ السَّامِعِينَ لَهُ وَقُلُوبِهِمْ، بِحَسَبِ قُصُورِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ. فَتَفَاقَمَ الْخَطْبُ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ. وَالْتَبَسَ طَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّادِقِينَ بِطَرَائِقِ الزَّنَادِقَةِ الْمُلْحِدِينَ. وَعَزَّ الْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا. فَدَخَلَ عَلَى الدِّينِ مِنَ الْفَسَادِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَأُشِيرَ إِلَى أَعْظَمِ الْخَلْقِ كُفْرًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلْحَادًا فِي دِينِهِ: بِأَنَّهُ مِنْ شُيُوخِ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالسُّلُوكِ. وَلَوْلَا ضَمَانُ اللَّهِ بِحِفْظِ دِينِهِ، وَتَكَفُّلِهِ بِأَنْ يُقِيمَ لَهُ مَنْ يُجَدِّدُ أَعْلَامَهُ، وَيُحْيِي مِنْهُ مَا أَمَاتَهُ الْمُبْطِلُونَ. وَيُنْعِشُ مَا أَخْمَلَهُ الْجَاهِلُونَ: لَهُدِّمَتْ أَرْكَانُهُ، وَتَدَاعَى بُنْيَانُهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلسَّالِكِ عِنْدَ وُرُودِ بَعْضِ الْمَعَانِي وَالْوَارِدَاتِ الْعَجِيبَةِ عَلَى قَلْبِهِ: فَرْطُ تَعَجُّبٍ، وَاسْتِحْسَانٍ وَاسْتِلْذَاذٍ، يُزِيلُ عَنْهُ تَمَاسُكَهُ، فَيُورِثُهُ ذَلِكَ الْهَيَمَانَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ السَّيْرِ، وَلَا مَنَازِلِ الطَّرِيقِ الْمَقْصُودَةِ بِالنُّزُولِ فِيهَا لِلْمُسَافِرِينَ. خِلَافًا لِصَاحِبِ الْمَنَازِلِ. حَيْثُ عَدَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْلَى الْمَنَازِلِ وَغَايَاتِهَا، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْهَيَمَانِ وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا فِي لِسَانِ سَلَفِ الْقَوْمِ. وَقَدْ تَكَلَّفَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ الِاسْتِشْهَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} وَمَا أَبْعَدَ الْآيَةَ مِنَ اسْتِشْهَادِهِ. وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ مُوسَى ذَهَبَ عَنْ تَمَاسُكِهِ، لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْخِطَابِ وَالتَّكْلِيمِ الْإِلَهِيِّ فَأَوْرَثَهُ ذَلِكَ هَيَمَانًا صُعِقَ مِنْهُ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّهُ. وَإِنَّمَا صُعِقَ مُوسَى عِنْدَ تَجَلِّي الرَّبِّ تَعَالَى لِلْجَبَلِ وَاضْمِحْلَالِهِ، وَتَدَكْدُكِهِ مِنْ تَجَلِّي الرَّبِّ تَعَالَى. فَالِاسْتِشْهَادُ بِالْآيَةِ فِي مَنْزِلَةِ الْفَنَاءِ الَّتِي تَضْمَحِلُّ فِيهَا الرُّسُومُ: أَنْسَبُ وَأَظْهَرُ. لِأَنَّ تَدَكْدُكَ الْجَبَلِ: هُوَ اضْمِحْلَالُ رَسْمِهِ عِنْدَ وُرُودِ نُورِ التَّجَلِّي عَلَيْهِ. وَالصَّعْقُ فَنَاءٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِهَذَا الْوَارِدِ الْمُفْنِي لِبَشَرِيَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَدْ حَدَّهُ بِأَنَّهُ الذَّهَابُ عَنِ التَّمَاسُكِ تَعَجُّبًا أَوْ حَيْرَةً. يَعْنِي: أَنَّ الْهَائِمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِ نَفْسِهِ لِلْوَارِدِ تَعَجُّبًا مِنْهُ وَحَيْرَةً. قَالَ: وَهُوَ أَثْبَتُ دَوَامًا، وَأَمْلَكُ لِلنَّعْتِ مِنَ الدَّهِشِ. يَعْنِي: أَنَّ الْهَائِمَ قَدْ يَسْتَمِرُّ هَيَمَانُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً. بِخِلَافِ الْمَدْهُوشِ. وَصَاحِبُ الْهَيَمَانِ يَمْلِكُ عِنَانَ الْقَوْلِ. فَيُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ. وَيَتَمَكَّنُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ. وَأَمَّا الدَّهِشُ: فَلِضِيقِ مَعْنَاهُ، وَقِصَرِ زَمَانِهِ: لَمْ يَمْلِكِ النَّعْتَ. فَالْهَائِمُ أَمْلَكُ بِنَعْتِ حَالِهِ وَوَارِدِهِ مِنَ الْمَدْهُوشِ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ لِلْهَيَمَانِ. الْأُولَى: هَيَمَانٌ فِي شِيَمِ أَوَائِلِ بَرْقِ اللُّطْفِ عِنْدَ قَصْدِ الطَّرِيقِ، مَعَ مُلَاحَظَةِ الْعَبْدِ خِسَّةَ قَدْرِهِ، وَسَفَالَةَ مَنْزِلَتِهِ. وَتَفَاهَةَ قِيمَتِهِ يُرِيدُ: أَنَّ الْقَاصِدَ لِلسُّلُوكِ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَوَاقِعِ لُطْفِ رَبِّهِ بِهِ- حَيْثُ أَهَّلَهُ لِمَا لَمْ يُؤَهِّلْ لَهُ أَهْلَ الْبَلَاءِ، وَهُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ- أَوْرَثَهُ ذَلِكَ النَّظَرُ تَعَجُّبًا يُوقِعُهُ فِي نَوْعٍ مِنَ الْهَيَمَانِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ " إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الْبَلَاءِ فَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ " تَدْرُونَ مَنْ هُمْ أَهْلُ الْبَلَاءِ؟ هُمْ هُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ. وَتَقْوَى هَذِهِ الْحَالُ إِذَا انْضَافَ إِلَيْهَا شُهُودُ الْعَبْدِ خِسَّةَ قَدْرِ نَفْسِهِ. فَاسْتَصْغَرَهَا أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِمَا أُهِّلَتْ لَهُ. وَكَذَلِكَ شُهُودُ سَفَالَةِ مَنْزِلَتِهِ أَيِ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ، وَكَذَلِكَ شُهُودُ تَفَاهَةِ قِيمَتِهِ أَيْ خِسَّتِهَا وَقِلَّتِهَا. وَحَاصِلُ ذَلِكَ كُلِّهِ: احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ، وَاسْتِعْظَامُهُ لِلُطْفِ رَبِّهِ بِهِ، وَتَأْهِيلِهِ لَهُ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ: الْهَيَمَانُ الْمَذْكُورُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ الشُّهُودَيْنِ: أُمُورٌ أُخْرَى، أَجَلُّ وَأَعْظَمُ، وَأَشْرَفُ مِنَ الْهَيَمَانِ- مِنْ مَحَبَّةٍ وَحَمْدٍ وَشُكْرٍ، وَعَزْمٍ وَإِخْلَاصٍ، وَنَصِيحَةٍ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَسُرُورٍ وَفَرَحٍ بِرَبِّهِ، وَأُنْسٍ بِهِ- هِيَ مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا. بِخِلَافِ عَارِضِ الْهَيَمَانِ. فَإِنَّهُ لَا يُطْلَبُ لِذَاتِهِ. وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: هَيَمَانٌ فِي تَلَاطُمِ أَمْوَاجِ التَّحْقِيقِ، عِنْدَ ظُهُورِ بَرَاهِينِهِ، وَتَوَاصُلِ عَجَائِبِهِ، وَلَوَامِعِ أَنْوَارِهِ. يُرِيدُ: أَنَّ السَّالِكَ وَالْمُرِيدَ إِذَا لَاحَتْ لَهُ أَنْوَارُ تَحَقُّقِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ: اهْتَدَى بِهَا إِلَى الْقَصْدِ، عَنْ بَصِيرَةٍ مُسْتَجَدَّةٍ، وَيَقَظَةٍ مُسْتَعِدَّةٍ. فَاسْتَنَارَ بِهَا قَلْبُهُ، وَأَشْرَقَ لَهَا سِرُّهُ. فَتَلَاطَمَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ التَّحْقِيقِ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ. فَهَامَ قَلْبُهُ فِيهَا. وَهَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ بِالذَّوْقِ كُلُّ طَالِبٍ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ انْفَتَحَتْ لَهُ الطُّرُقُ وَالْأَبْوَابُ إِلَى تَحْصِيلِهِ. وَيُرِيدُ بِتَوَاصُلِ عَجَائِبِهِ: تَتَابُعُ عَجَائِبِ التَّحْقِيقِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا لَا يُحْجَبُ عَنْ بَعْضٍ، وَلَا يَقِفُ فِي طَرِيقِ بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ لَوَامِعُ أَنْوَارِهِ وَأَعْظَمُ مَا يَجِدُ هَذَا الْوَجْدَ: عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ. وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ لِلْفَهْمِ. وَنِسْبَةُ مَا دُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ: كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: هَيَمَانٌ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي عَيْنِ الْقِدَمِ، وَمُعَايَنَةِ سُلْطَانِ الْأَزَلِ، وَالْغَرَقِ فِي بَحْرِ الْكَشْفِ. يُرِيدُ: هَيَمَانَ الْفَنَاءِ. وَالْوُقُوعُ فِي عَيْنِ الْقِدَمِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاضْمِحْلَالِ الرَّسْمِ وَفَنَائِهِ فِي شُهُودِ الْقِدَمِ. فَإِنَّهُ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُودًا. وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ. وَكَذَلِكَ مُعَايَنَةُ سُلْطَانِ الْأَزَلِ لَا يَبْقَى مَعَهَا مُعَايَنَةُ رُسُومِ الْكَائِنَاتِ وَأَطْلَالِ الْحَادِثَاتِ. وَأَمَّا بَحْرُ الْكَشْفِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ: فَهُوَ انْكِشَافُ الْحَقِيقَةِ لِعَيْنِ الْقَلْبِ. وَلَا تَعْتَقِدْ أَنَّ لِلسَّالِكِ وَرَاءَ مَقَامِ الْإِحْسَانِ شَيْئًا أَعْلَى مِنْهُ. بَلِ الْإِحْسَانُ مَرَاتِبُ. وَأَمَّا الْكَشْفُ الْحَقِيقِيُّ لِلْحَقِيقَةِ: فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ. وَالْقَوْمُ يَلُوُحُ لِأَحَدِهِمْ أَنْوَارٌ هِيَ ثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ وَمُعَامَلَاتُ الْقُلُوبِ، وَآثَارُ الْأَحْوَالِ الصَّادِقَةِ فَيَظُنُّونَهَا نُورَ الْحَقِيقَةِ. وَلَا يَأْخُذُهُمْ فِي ذَلِكَ لَوْمَةُ لَائِمٍ. وَإِنَّمَا هِيَ أَنْوَارٌ فِي بَوَاطِنِهِمْ لَيْسَ إِلَّا، وَبَابُ الْعِصْمَةِ مِنْ غَيْرِ الرُّسُلِ مَسْدُودٌ إِلَّا عَمَّنِ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ أَنْوَارِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " نُورُ الْبَرْقِ الَّذِي يَبْدُو لِلْعَبْدِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَهُوَ لَامِعٌ يَلْمَعُ لِقَلْبِهِ. يُشْبِهُ لَامِعَ الْبَرْقِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْبَرْقُ مَعْنَاهُ: بَاكُورَةٌ تَلْمَعُ لِلْعَبْدِ. فَتَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ. وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا}. وَوَجْهُ الِاسْتِشْهَادِ: أَنَّ النَّارَ الَّتِي رَآهَا مُوسَى كَانَتْ مَبْدَأً فِي طَرِيقِ نُبُوَّتِهِ. وَ " الْبَرْقُ " مَبْدَأٌ فِي طَرِيقِ الْوَلَايَةِ الَّتِي هِيَ وِرَاثَةُ النُّبُوَّةِ. وَقَوْلُهُ " بَاكُورَةٌ: الْبَاكُورَةُ هِيَ أَوَّلُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ بَاكُورَةُ الثِّمَارِ. وَهُوَ لِمَا سَبَقَ نَوْعَهُ فِي النُّضْجِ. وَقَوْلُهُ " يَلْمَعُ لِلْعَبْدِ " أَيْ يَبْدُو لَهُ وَيَظْهَرُ " فَتَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ " وَلَمْ يُرِدْ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَايَاتِ. فَإِنَّ تِلْكَ هِيَ الْيَقَظَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: طَرِيقَ أَرْبَابِ التَّوَسُّطِ وَالنِّهَايَاتِ. وَعَلَى هَذَا: فَالْبَرْقُ- الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ- هُوَ بَرْقُ الْأَحْوَالِ، لَا بَرْقُ الْأَعْمَالِ، أَوْ بَرْقٌ لَا سَبَبَ لَهُ مِنَ السَّالِكِ. إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَوْهِبَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَحْصُلُ لِأَرْبَابِ التَّوَسُّطِ وَالنِّهَايَاتِ: أَنَّهُ أَخَذَ- بَعْدَ تَعْرِيفِهِ- يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْدِ. فَقَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْدِ الْبَرْقُ: أَنَّ الْوَجْدَ يَقَعُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ. وَالْبَرْقُ قَبْلَهُ. فَالْوَجْدُ زَادٌ. وَالْبَرْقُ إِذْنٌ. يُرِيدُ: أَنَّ الْبَرْقَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَيُبْدِيهِ لَهُ. فَيَدْعُوهُ بِهِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الطَّرِيقِ. وَالْوَجْدُ هُوَ شِدَّةُ الطَّلَبِ، وَقُوَّتُهُ الْمُوجِبَةُ لِتَأْجِيجِ اللَّهِيبِ مِنَ الشُّهُودِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَ " الْوَجْدُ زَادٌ " يَعْنِي: أَنَّهُ يَصْحَبُ السَّالِكَ كَمَا يَصْحَبُهُ زَادُهُ. بَلْ هُوَ مِنْ نَفَائِسِ زَادِهِ وَ " الْبَرْقُ إِذْنٌ " يَعْنِي إِذْنًا فِي السُّلُوكِ، وَالْإِذْنُ إِنَّمَا يُفْسِحُ لِلسَّالِكِ فِي الْمَسِيرِ لَا غَيْرَ.
قَالَ: وَهُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ لِلْبَرْقِ. الْأُولَى: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْعِدَةِ فِي عَيْنِ الرَّجَاءِ. فَيَسْتَكْثِرُ فِيهِ الْعَبْدُ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَطَاءِ، وَيَسْتَقِلُّ فِيهِ الْكَثِيرَ مِنَ الْإِعْيَاءِ، وَيَسْتَحْلِي فِيهِ مَرَارَةَ الْقَضَاءِ. يَعْنِي بِالْعِدَةِ: مَا وَعَدَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَعِنْدَ اللِّقَاءِ. وَقَوْلُهُ " يَلْمَعُ فِي عَيْنِ الرَّجَاءِ " أَيْ يَبْدُو فِي حَقِيقَةِ الرَّجَاءِ مِنْ أُفُقِهِ وَنَاحِيَتِهِ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ اسْتِكْثَارَ الْقَلِيلِ- وَلَا قَلِيلَ مِنَ اللَّهِ- مِنْ عَطَائِهِ، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاسْتِكْثَارِ: أَرْبَعَةُ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: نَظَرُهُ إِلَى جَلَالَةِ مُعْطِيهِ وَعَظَمَتِهِ. الثَّانِي: احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ. فَإِنَّ ازْدِرَاءَهُ لَهَا: يُوجِبُ اسْتِكْثَارَ مَا يَنَالُهُ مِنْ سَيِّدِهِ. الثَّالِثُ: مَحَبَّتُهُ لَهُ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا تَمَكَّنَتْ مِنَ الْعَبْدِ اسْتَكْثَرَ قَلِيلَ مَا يَنَالُهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا- قَبْلَ الْعَطَاءِ- لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلْفٌ بِهِ، وَلَا اتِّصَالٌ بِالْعَطِيَّةِ. فَلَمَّا فَاجَأَتْهُ: اسْتَكْثَرَهَا. وَأَمَّا اسْتِقْلَالُهُ الْكَثِيرَ مِنَ الْإِعْيَاءِ- وَهُوَ التَّعَبُ وَالنَّصَبُ- فَلِأَنَّهُ لَمَّا بَدَا لَهُ بَرْقُ الْوُعُودِ مِنْ أُفُقِ الرَّجَاءِ: حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْجِدِّ وَالطَّلَبِ. وَحَمَلَ عَنْهُ مَشَقَّةَ السَّيْرِ. فَلَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مِنْ مَسِّ الْإِعْيَاءِ وَالنَّصَبِ مَا يَجِدُهُ مَنْ لَمْ يَشُمَّ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ اسْتِحْلَاؤُهُ- فِي هَذَا الْبَرْقِ- مَرَارَةَ الْقَضَاءِ وَهُوَ الْبَلَاءُ الَّذِي يَخْتَبِرُ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ، لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَصْبَرُ وَأَصْدَقُ، وَأَعْظَمُ إِيمَانًا، وَمَحَبَّةً وَتَوَكُّلًا وَإِنَابَةً؟ فَإِذَا لَاحَ لِلسَّالِكِ هَذَا الْبَرْقُ: اسْتَحْلَى فِيهِ مَرَارَةَ الْقَضَاءِ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْوَعِيدِ فِي عَيْنِ الْحَذَرِ. فَيَسْتَقْصِرُ فِيهِ الْعَبْدُ الطَّوِيلَ مِنَ الْأَمَلِ، وَيَزْهَدُ فِي الْخَلْقِ عَلَى الْقُرْبِ. وَيَرْغَبُ فِي تَطْهِيرِ السِّرِّ. هَذَا الْبَرْقُ أُفُقُهُ وَعَيْنُهُ: غَيْرُ أُفُقِ الْبَرْقِ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ هَذَا يَلْمَعُ مِنْ أُفُقِ الْحَذَرِ، وَذَاكَ مِنْ أُفُقِ الرَّجَاءِ. فَإِذَا شَامَ هَذَا الْبَرْقَ: اسْتَقْصَرَ فِيهِ الطَّوِيلَ مِنَ الْأَمَلِ. وَتَخَيَّلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ: أَنَّ الْمَنِيَّةَ تُعَافِصَهُ وَتُفَاجِئُهُ. فَاشْتَدَّ حَذَرُهُ مِنْ هُجُومِهَا، مَخَافَةَ أَنْ تَحِلَّ بِهِ عُقُوبَةُ اللَّهِ، وَيُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِعْتَابِ وَالتَّأَهُّبِ لِللِّقَاءِ. فَيَلْقَى رَبَّهُ قَبْلَ الطُّهْرِ التَّامِّ. فَلَا يُؤْذَنُ لَهُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ. كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ لِلصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ. وَهَذَا يُذَكِّرُ الْعِبَادَ بِالتَّطَهُّرِ لِلْمُوَافَاةِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَالدُّخُولِ وَقْتَ اللِّقَاءِ لِمَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ، وَفَهِمَ أَسْرَارَ الْعِبَادَاتِ. فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بَيْتَهُ الْمُحَرَّمَ بِوَجْهِهِ، وَيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَيُطَهِّرَ بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ، وَمَوْضِعَ مَقَامِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ يُخْلِصُ لَهُ النِّيَّةَ. فَهَكَذَا الدُّخُولُ عَلَيْهِ وَقْتَ اللِّقَاءِ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَنْ يَسْتَقْبِلَ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ كُلِّهِ. وَيَسْتُرَ عَوْرَاتِهِ الْبَاطِنَةَ بِلِبَاسِ التَّقْوَى. وَيُطَهِّرَ قَلْبَهُ وَرُوحَهُ وَجَوَارِحَهُ مِنْ أَدْنَاسِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. وَيَتَطَهَّرَ لِلَّهِ طُهْرًا كَامِلًا. وَيَتَأَهَّبَ لِلدُّخُولِ أَكْمَلَ تَأَهُّبٍ. وَأَوْقَاتُ الصَّلَاةِ نَظِيرُ وَقْتِ الْمُوَافَاةِ. فَإِذَا تَأَهَّبَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْوَقْتِ: جَاءَهُ الْوَقْتُ وَهُوَ مُتَأَهِّبٌ. فَيَدْخُلُ عَلَى اللَّهِ. وَإِذَا فَرَّطَ فِي التَّأَهُّبِ: خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ التَّأَهُّبِ. إِذْ هُجُومُ وَقْتِ الْمُوَافَاةِ مُضَيَّقٌ لَا يَقْبَلُ التَّوْسِعَةَ. فَلَا يُمَكِّنُ الْعَبْدَ مِنَ التَّطَهُّرِ وَالتَّأَهُّبِ عِنْدَ هُجُومِ الْوَقْتِ. بَلْ يُقَالُ لَهُ: هَيْهَاتَ، فَاتَ مَا فَاتَ، وَقَدْ بَعُدَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّطَهُّرِ الْمَسَافَاتُ. فَمَنْ شَامَ بَرْقَ الْوَعِيدِ بِقِصَرِ الْأَمَلِ: لَمْ يَزَلْ عَلَى طَهَارَةٍ. وَأَمَّا " تَزْهِيدُهُ فِي الْخَلْقِ عَلَى الْقُرْبِ " وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَهُ أَوْ مُنَاسِبِيهِ، أَوْ مُجَاوِرِيهِ وَمُلَاصِقِيهِ، أَوْ مُعَاشِرِيهِ وَمُخَالِطِيهِ: فَلِكَمَالِ حَذَرِهِ، وَاسْتِعْدَادِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِمَا أَمَامَهُ، وَمُلَاحَظَةِ الْوَعِيدِ مِنْ أُفُقِ ذَلِكَ الْبَارِقِ الَّذِي لَيْسَ بِخُلَّبٍ، بَلْ هُوَ أَصْدَقُ بَارِقٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ عَنْ قُرْبٍ أَيْ عَنْ أَقْرَبِ وَقْتٍ. فَلَا يَنْتَظِرُ بِزُهْدِهِ فِيهِمْ: أَمَلًا يُؤَمِّلُهُ. وَلَا وَقْتًا يَسْتَقْبِلُهُ. قَوْلُهُ " وَيَرْغَبُ فِي تَطْهِيرِ السِّرِّ " يَعْنِي تَطْهِيرَ سِرِّهِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ اللُّطْفِ فِي عَيْنِ الِافْتِقَارِ. فَيُنْشِئُ سَحَابَ السُّرُورِ. وَيُمْطِرُ مَطَرَ الطَّرَبِ. وَيَجْرِي مِنْ نَهْرِ الِافْتِخَارِ هَذَا الْبَرْقُ يَلْمَعُ مِنْ أُفُقِ مُلَاطَفَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ بِأَنْوَاعِ الْمُلَاطَفَاتِ. وَمَطْلَعُ هَذَا الْبَرْقِ: فِي عَيْنِ الِافْتِخَارِ، الَّذِي هُوَ بَابُ السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْهُ. وَكُلُّ طَرِيقٍ سِوَاهُ فَمَسْدُودٌ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يَصِلُ الْعَبْدُ مِنْهُ إِلَّا بِالْمُتَابَعَةِ. فَلَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ أَلْبَتَّةَ أَبَدًا- وَلَوْ تَعَنَّى الْمُتَعَنُّونَ، وَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ- إِلَّا الِافْتِقَارُ، وَمُتَابَعَةُ الرَّسُولِ فَقَطْ. فَلَا يُتْعِبُ السَّالِكُ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ. فَإِنَّهُ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ. وَهُوَ صَيْدُ الْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ. قَوْلُهُ " فَيُنْشِئُ سَحَابَ السُّرُورِ " أَيْ يُنْشِئُ لِلْعَبْدِ سُرُورًا خَاصًّا وَفَرَحًا بِرَبِّهِ لَا عَهْدَ لَهُ بِمِثْلِهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَنَفْحَةً مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَنِسْمَةً مِنْ رِيحِ شَمَالِهِمْ. فَإِذَا نَشَأَ لَهُ ذَلِكَ السَّحَابُ أَمْطَرَ عَلَيْهِ صَيِّبَ الطَّرَبِ، فَطَرِبَ بَاطِنُهُ وَسِرُّهُ لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ سَيِّدِهِ وَوَلِيِّهِ. وَإِذَا اشْتَدَّ ذَلِكَ الطَّرَبُ. جَرَى بِهِ نَهْرُ الِافْتِخَارِ، يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ. وَإِمَّا أَنْ يُرِيدُ بِهِ: افْتِخَارُهُ عَلَى الشَّيْطَانِ. وَهَذِهِ مَخِيلَةٌ مَحْمُودَةٌ، طَرَبًا وَافْتِخَارًا عَلَيْهِ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا يُحِبُّ الْمُخْتَالَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ عِنْدَ الْحَرْبِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُرَاغَمَةِ أَعْدَائِهِ، وَيُحِبُّ الْخُيَلَاءَ عِنْدَ الصَّدَقَةِ- كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْحَدِيثِ- لِسِرٍّ عَجِيبٍ، يَعْرِفُهُ أُولُو الصَّدَقَاتِ وَالْبَذْلِ مِنْ نُفُوسِهِمْ عِنْدَ ارْتِيَاحِهِمْ لِلْعَطَاءِ، وَابْتِهَاجِهِمْ بِهِ، وَاخْتِيَالِهِمْ عَلَى النَّفْسِ الشَّحِيحَةِ الْأَمَّارَةِ بِالْبُخْلِ. وَعَلَى الشَّيْطَانِ الْمُزَيِّنِ لَهَا ذَلِكَ: وَهُمْ يُنْفِذُونَ الْمَالَ فِي أَوَّلِ الْغِنَى *** وَيَسْتَأْنِفُونَ الصَّبْرَ فِي آخِرِ الصَّبْرِ مَغَاوِيرُ لِلْعَلْيَا مَغَابِيرُ لِلْحِمَى *** مَفَارِيجُ لِلْغُمَّى مَدَارِيكُ لِلْوِتْرِ وَتَأْخُذُهُمْ فِي سَاعَةِ الْجُودَ هِزَّةٌ *** كَمَا تَأْخُذُ الْمِطْرَابَ عَنْ نَزْوَةِ الْخَمْرِ فَهَذَا الِافْتِخَارُ مِنْ تَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ. أَوْ يُرِيدُ بِهِ: أَنَّهُ حَرِيٌّ بِالِافْتِخَارِ بِمَا تَمَيَّزَ بِهِ. وَلَمْ يَفْتَخِرْ بِهِ إِبْقَاءً عَلَى عُبُودِيَّتِهِ وَافْتِقَارِهِ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسِرُّ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَاحَظَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَلْطَافِ، وَشَهِدَهُ مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ، وَمَحْضِ الْجُودِ: شَهِدَ مَعَ ذَلِكَ فَقْرَهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الشُّكْرِ، وَأَسْبَابِ الْمَزِيدِ، وَتَوَالِي النِّعَمِ عَلَيْهِ. وَكُلَّمَا تَوَالَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ: أَنْشَأَتْ فِي قَلْبِهِ سَحَائِبَ السُّرُورِ. وَإِذَا انْبَسَطَتْ هَذِهِ السَّحَائِبُ فِي سَمَاءِ قَلْبِهِ، وَامْتَلَأَ بِهَا أُفُقُهُ: أَمْطَرَتْ عَلَيْهِ وَابِلَ الطَّرَبِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ لَذِيذِ السُّرُورِ. فَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ وَابِلٌ فَطَلٌّ. وَحِينَئِذٍ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ وَظَاهِرِهِ نَهْرُ الِافْتِخَارِ مِنْ غَيْرِ عُجْبٍ وَلَا فَخْرٍ، بَلْ فَرَحًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} فَالِافْتِخَارُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالِافْتِقَارُ وَالِانْكِسَارُ فِي بَاطِنِهِ، وَلَا يُنَافِي أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ فَكَيْفَ أَخْبَرَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ افْتِخَارًا بِهِ عَلَى مَنْ دُونَهُ، وَلَكِنْ إِظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِعْلَامًا لِلْأُمَّةِ بِقَدْرِ إِمَامِهِمْ وَمَتْبُوعِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ لَدَيْهِ. لِتَعْرِفَ الْأُمَّةُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ. وَيُشْبِهُ هَذَا قَوْلَ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ لِلْعَزِيزِ {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فَإِخْبَارُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى الْعَزِيزِ وَعَلَى الْأُمَّةِ، وَعَلَى نَفْسِهِ: كَانَ حَسَنًا. إِذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْفَخْرَ عَلَيْهِمْ، فَمَصْدَرُ الْكَلِمَةِ وَالْحَامِلُ عَلَيْهَا يُحَسِّنُهَا وَيُهَجِّنُهَا. وَصُورَتُهُ وَاحِدَةٌ.
وَمِنْهَا مَنْزِلَةُ الذَّوْقِ وَ " الذَّوْقُ " مُبَاشَرَةُ الْحَاسَّةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِلْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ. وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِحَاسَّةِ الْفَمِ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ، بَلْ وَلَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وقال: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} وقال تَعَالَى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} وقال: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}. فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ الذَّوْقِ وَاللِّبَاسِ، لِيَدُلَّ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْمَذُوقِ وَإِحَاطَتِهِ وَشُمُولِهِ. فَأَفَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِذَاقَتِهِ: أَنَّهُ وَاقِعٌ مُبَاشَرٌ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ. فَإِنَّ الْخَوْفَ قَدْ يُتَوَقَّعُ وَلَا يُبَاشَرُ، وَأَفَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ لِبَاسِهِ: أَنَّهُ مُحِيطٌ شَامِلٌ كَاللِّبَاسِ لِلْبَدَنِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا. وَبِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَسُولًا فَأَخْبَرَ: أَنَّ لِلْإِيمَانِ طَعْمًا، وَأَنَّ الْقَلْبَ يَذُوقُهُ كَمَا يَذُوقُ الْفَمُ طَعْمَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَقَدْ عَبَّرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَالْإِحْسَانِ، وَحُصُولِهِ لِلْقَلْبِ وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ: بِالذَّوْقِ تَارَةً، وَبِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَارَةً، وَبِوُجُودِ الْحَلَاوَةِ تَارَةً، كَمَا قَالَ ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ وَقَالَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ- بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ. وَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَالِ قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى وَفِي لَفْظٍ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي وَفِي لَفْظٍ إِنَّ لِي مُطْعِمًا يُطْعِمُنِي، وَسَاقِيًا يَسْقِينِي. وَقَدْ غَلُظَ حِجَابُ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا طَعَامٌ وَشَرَابٌ حِسِّيٌّ لِلْفَمِ. وَلَوْ كَانَ كَمَا ظَنَّهُ هَذَا الظَّانُّ: لَمَا كَانَ صَائِمًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُوَاصِلًا. وَلَمَا صَحَّ جَوَابُهُ بِقَوْلِهِ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ فَأَجَابَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِفِيهِ الْكَرِيمِ حِسًّا، لَكَانَ الْجَوَابُ أَنْ يَقُولَ: وَأَنَا لَسْتُ أُوَاصِلُ أَيْضًا. فَلَمَّا أَقَرَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّكَ تُوَاصِلُ عُلِمَ أَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُمْسِكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيَكْتَفِي بِذَلِكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْعَالِي الرُّوحَانِيِّ، الَّذِي يُغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُشْتَرَكِ الْحِسِّيِّ. وَهَذَا الذَّوْقُ هُوَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ هِرَقْلُ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، حَيْثُ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، إِذَا خَالَطَتْ حَلَاوَتُهُ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ. فَاسْتَدَلَّ بِمَا يَحْصُلُ لِأَتْبَاعِهِ مِنْ ذَوْقِ الْإِيمَانِ- الَّذِي خَالَطَتْ بِشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ: لَمْ يَسْخَطْهُ ذَلِكَ الْقَلْبُ أَبَدًا- عَلَى أَنَّهُ دَعْوَةُ نُبُوَّةٍ وَرِسَالَةٍ، لَا دَعْوَى مُلْكٍ وَرِيَاسَةٍ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ ذَوْقَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، أَمْرٌ يَجِدُهُ الْقَلْبُ. تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ ذَوْقِ حَلَاوَةِ الطَّعَامِ إِلَى الْفَمِ، وَذَوْقِ حَلَاوَةِ الْجِمَاعِ إِلَى إِلْفَةِ النَّفْسِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ. وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ فَلِلْإِيمَانِ طَعْمٌ وَحَلَاوَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا ذَوْقٌ وَوَجْدٌ. وَلَا تَزُولُ الشُّبَهُ وَالشُّكُوكُ عَنِ الْقَلْبِ إِلَّا إِذَا وَصَلَ الْعَبْدُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ. فَبَاشَرَ الْإِيمَانَ قَلْبُهُ حَقِيقَةَ الْمُبَاشَرَةِ. فَيَذُوقَ طَعْمَهُ وَيَجِدَ حَلَاوَتَهُ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ الذَّوْقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَذَا ذِكْرٌ}. فِي تَنْزِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الذَّوْقِ صُعُوبَةٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الشَّيْخَ أَرَادَ: أَنَّ الذَّوْقَ مُقَدِّمَةُ الشَّرَابِ، كَمَا أَنَّ التَّذَكُّرَ مُقَدِّمَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَمِنْهُ يَدْخُلُ إِلَى مَقَامِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. فَإِنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَ أَبْصَرَ الْحَقِيقَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} فَالتَّذَكُّرُ يُوجِبُ التَّبَصُّرُ، فَيَكُونُ لَهُ الْإِيمَانُ بَعْدَ التَّبَصُّرِ ذَوْقًا وَعِيَانًا. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ} فَالتَّذَكُّرُ بِهَذَا الذِّكْرِ، الَّذِي قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَشْهَدُ صَاحِبُهُ الْإِيمَانَ بِالْمَعَادِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ عِنْدَ لِقَائِهِ. فَيَصِيرُ إِيمَانُهُمْ بِذَلِكَ ذَوْقًا، لَا خَبَرًا مَحْضًا. لِأَنَّهُ نَشَأَ عَنْ تَذَكُّرِهِمْ بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَأَمُّلِهِمْ حَقَائِقَهُ وَأَسْرَارَهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ. فَالتَّذَكُّرُ سَبَبُ الذَّوْقِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَالذَّوْقُ: أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ، وَأَجْلَى مِنَ الْبَرْقِ. يُرِيدُ بِهِ: أَنَّ مَنْزِلَةَ الذَّوْقِ أَثْبَتُ وَأَرْسَخُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْوَجْدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَثَرَ الذَّوْقِ يَبْقَى فِي الْقَلْبِ، وَيَطُولُ بَقَاؤُهُ. كَمَا يَبْقَى أَثَرُ ذَوْقِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْقُوَّةِ الذَّائِقَةِ. وَيَبْقَى عَلَى الْبَدَنِ وَالرُّوحِ. فَإِنَّ الذَّوْقَ مُبَاشَرَةٌ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَالْوَجْدُ عِنْدَ الشَّيْخِ لَهِيبٌ يَتَأَجَّجُ مِنْ شُهُودِ عَارِضٍ مُقْلِقٍ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنَ الْعَوَارِضِ، كَالْهَيَمَانِ وَالْقَلَقِ. فَإِنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ مُكَاشَفَةٍ لَا تَدُومُ. فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ " وَأَجْلَى مِنَ الْبَرْقِ " فَإِنَّ الْبَرْقَ أَسْرَعُ انْقِضَاءً، وَكَشْفُهُ دُونَ كَشْفِ الذَّوْقِ. وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلَكِنَّ جَعْلَهُ الذَّوْقَ أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ وَأَعْلَى مِنْهُ: فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَعَلَ الْوَجْدَ فَوْقَ الذَّوْقِ وَأَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِي الذَّوْقِ: ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ، فَوَجْدُ حَلَاوَةِ الشَّيْءِ الْمَذُوقِ: أَخَصُّ مِنْ مُجَرَّدِ ذَوْقِهِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْحَلَاوَةُ أَخَصَّ مِنَ الطَّعْمِ: قَرَنَ بِهَا الْوَجْدَ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنْ مُجَرَّدِ الذَّوْقِ. فَقَرَنَ الْأَخَصَّ بِالْأَخَصِّ، وَالْأَعَمَّ بِالْأَعَمِّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَجْدِ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ: الْوَجْدَ الَّذِي هُوَ لَهِيبُ الْقَلْبِ. فَإِنَّ ذَلِكَ مَصْدَرُ وَجَدَ بِالشَّيْءِ وَجْدًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ الثُّبُوتُ. فَمَصْدَرُ هَذَا الْفِعْلِ: الْوُجُودُ وَالْوِجْدَانُ، فَوَجَدَ الشَّيْءَ يَجِدُهُ وِجْدَانًا: إِذَا حَصَلَ لَهُ وَثَبَتَ. كَمَا يَجِدُ الْفَاقِدُ الشَّيْءَ الَّذِي بَعُدَ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} وقوله: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} وقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} وقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ. فَوِجْدَانُ الشَّيْءِ: ثُبُوتُهُ وَاسْتِقْرَارُهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ وِجْدَانٌ لَهُ. إِذْ يَمْتَنِعُ حُصُولُ هَذَا الذَّوْقِ مِنْ غَيْرِ وِجْدَانٍ. وَلَكِنَّ اصْطِلَاحَ كَثِيرٍ مِنَ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الذَّائِقَ أَخَصُّ مِنَ الْوَاجِدِ. فَكَأَنَّهُ شَارَكَ الْوَاجِدَ فِي الْحُصُولِ، وَامْتَازَ عَنْهُ بِالذَّوْقِ. فَإِنَّهُ قَدْ يَجِدُ الشَّيْءَ وَلَا يَذُوقُهُ الذَّوْقَ التَّامَّ. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا قَالُوهُ. بَلْ وُجُودُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ لِلْقَلْبِ: ذَوْقٌ لَهَا وَزِيَادَةٌ، وَثُبُوتٌ وَاسْتِقْرَارٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: ذَوْقُ التَّصْدِيقِ طَعْمَ الْعِدَةِ. فَلَا يَعْقِلُهُ ظَنٌّ، وَلَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ. وَلَا تَعُوقُهُ أُمْنِيَةٌ. يُرِيدُ: أَنَّ الْعَبْدَ الْمُصَدِّقَ إِذَا ذَاقَ طَعْمَ الْوَعْدِ مِنَ اللَّهِ عَلَى إِيمَانِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَطَاعَتِهِ: ثَبَتَ عَلَى حُكْمِ الْوَعْدِ وَاسْتَقَامَ. " فَلَمْ يَعْقِلْهُ ظَنٌّ " أَيْ لَمْ يَحْبِسْهُ ظَنٌّ، تَقُولُ: عَقَلْتُ فُلَانًا عَنْ كَذَا، أَيْ مَنَعْتُهُ عَنْهُ وَصَدَدْتُهُ، وَمِنْهُ عِقَالُ الْبَعِيرِ، لِأَنَّهُ يَحْبِسُهُ عَنِ الشُّرُودِ. وَمِنْهُ: الْعَقْلُ. لِأَنَّهُ يَحْبِسُ صَاحِبَهُ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَحْسُنُ وَلَا يَجْمُلُ. وَمِنْهُ: عَقَلْتَ الْكَلَامَ، وَعَقَلْتَ مَعْنَاهُ: إِذَا حَبَسْتَهُ فِي صَدْرِكَ وَحَصَّلْتَهُ فِي قَلْبِكَ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا عِنْدَكَ. وَمِنْهُ: الْعَقْلُ لِلدِّيَةِ. لِأَنَّهَا تَمْنَعُ آخِذَهَا مِنَ الْعُدْوَانِ عَلَى الْجَانِي وَعَصَبَتِهِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ بِوَعْدِ اللَّهِ يَمْنَعُ الذَّائِقَ أَنْ يَحْبِسَهُ ظَنٌّ عَنِ الْجِدِّ فِي الطَّلَبِ، وَالسَّيْرِ إِلَى رَبِّهِ. وَالظَّنُّ هُوَ الْوُقُوفُ عَنِ الْجَزْمِ بِصِحَّةِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، بِحَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ جَانِبُ التَّصْدِيقِ. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ يَقُولُ: الذَّائِقُ بِالتَّصْدِيقِ طَعْمَ الْوَعْدِ، لَا يُعَارِضُهُ ظَنٌّ يَعْقِلُهُ عَنْ صِدْقِ الطَّلَبِ، وَيَحْبِسُ عَزِيمَتَهُ عَنِ الْجِدِّ فِيهِ. وَفِي حَدِيثِ سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ قَوْلُهُ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَيْ مُقِيمٌ عَلَى التَّصْدِيقِ بِوَعْدِكَ، وَعَلَى الْقِيَامِ بِعَهْدِكَ، بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِي. وَالْحَامِلُ عَلَى هَذِهِ الْإِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ: ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ، وَمُبَاشَرَتِهِ لِلْقَلْبِ. وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَجَازًا- لَا حَقِيقَةً- لَمْ يَثْبُتِ الْقَلْبُ عَلَى حُكْمِ الْوَعْدِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. وَلَا يُفِيدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ. وَثَوْبُ الْعَارِيَةِ لَا يُجَمِّلُ لَابِسَهُ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، وَأَنَّهُ عَارِيَةٌ عَلَيْهِ، كَمَا قِيلَ: ثَوْبُ الرِّيَاءِ يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ *** فَإِذَا اشْتَمَلْتَ بِهِ فَإِنَّكَ عَارِي وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ يُكْثِرُ التَّلْبِيَةَ فِي إِحْرَامِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَبَّيْكَ، لَوْ كَانَ رِيَاءً لَاضْمَحَلَّ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى الْإِيمَانَ عَمَّنِ ادَّعَاهُ. وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ ذَوْقٌ. فَقَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}. فَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ، وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ بَاشَرَ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، فَذَاقَ حَلَاوَتَهُ وَطَعْمَهُ. وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ كُفَّارًا. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ بِقوله: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} وَلَمْ يُرِدْ: قُولُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ. فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ آمَنَّا وَقَوْلِهِمْ أَسْلَمْنَا، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَذُوقُوا طَعْمَ الْإِيمَانِ، قَالَ: لَمْ تُؤْمِنُوا. وَوَعَدَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مَعَ ذَلِكَ- عَلَى طَاعَتِهِمْ أَنْ لَا يُنْقِصَهُمْ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا. ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ الَّذِينَ ذَاقُوا طَعْمَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبِرَسُولِهِ. ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا فِي إِيمَانِهِمْ. وَإِنَّمَا انْتَفَى عَنْهُمُ الرَّيْبُ: لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ بَاشَرَ قُلُوبَهُمْ. وَخَالَطَتْهَا بَشَاشَتُهُ. فَلَمْ يَبْقَ لِلرَّيْبِ فِيهِ مَوْضِعٌ. وَصَدَّقَ ذَلِكَ الذَّوْقَ: بَذْلُهُمْ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ فِي رِضَا رَبِّهِمْ تَعَالَى. وَهُوَ أَمْوَالُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ. وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ: حُصُولُ هَذَا الْبَذْلِ مِنْ غَيْرِ ذَوْقِ طَعْمِ الْإِيمَانِ، وَوُجُودِ حَلَاوَتِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِصِدْقِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ. كَمَاقَالَ الْحَسَنُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي، وَلَا بِالتَّحَلِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ. فَالذَّوْقُ وَالْوَجْدُ: أَمْرٌ بَاطِنٌ، وَالْعَمَلُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَمُصَدِّقٌ لَهُ. كَمَا أَنَّ الرَّيْبَ وَالشَّكَّ وَالنِّفَاقَ: أَمْرٌ بَاطِنٌ. وَالْعَمَلُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَمُصَدِّقٌ لَهُ. فَالْأَعْمَالُ ثَمَرَاتُ الْعُلُومِ وَالْعَقَائِدِ. فَالْيَقِينُ: يُثْمِرُ الْجِهَادَ، وَمَقَامَاتِ الْإِحْسَانِ. فَعَلَى حَسَبِ قُوَّتِهِ تَكُونُ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ. وَالرَّيْبُ وَالشَّكُّ: يُثْمِرُ الْأَعْمَالَ الْمُنَاسِبَةَ لَهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ " وَلَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ " أَيْ مِنْ عَلَامَاتِ الذَّوْقِ: أَنْ لَا يَقْطَعَ صَاحِبَهُ عَنْ طَلَبِهِ أَمْرُ دُنْيَا، وَطَمَعٌ فِي غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهَا. فَإِنَّ الْأَمَلَ وَالطَّمَعَ يَقْطَعَانِ طَرِيقَ الْقَلْبِ فِي سَيْرِهِ إِلَى مَطْلُوبِهِ. وَلَمْ يَقُلِ الشَّيْخُ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَمَلٌ، بَلْ قَالَ: لَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ. فَإِنَّ الْأَمَلَ إِذَا قَامَ بِهِ وَلَمْ يَقْطَعْهُ: لَمْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ عَوَّقَ سَيْرَهُ بَعْضَ التَّعْوِيقِ. وَإِنَّمَا الْبَلَاءُ فِي الْأَمَلِ الْقَاطِعِ لِلْقَلْبِ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ. وَعِنْدَ الطَّائِفَةِ: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ، فَإِرَادَتُهُ: أَمَلٌ قَاطِعٌ، كَائِنًا مَا كَانَ. فَمَنْ كَانَ ذَلِكَ أَمَلُهُ، وَمُنْتَهَى طَلَبِهِ: فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَوْقِ الْإِيمَانِ. فَإِنَّهُ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِهِ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَلٌ فِي غَيْرِهِ. وَإِنَّ تَعَلَّقَ أَمَلُهُ بِسِوَاهُ، فَهُوَ لِإِعَانَتِهِ عَلَى مَرْضَاتِهِ وَمَحَابِّهِ. فَهُوَ يُؤَمِّلُهُ لِأَجْلِهِ، وَلَا يُؤَمِّلُهُ مَعَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الَّذِي يَقْطَعُ بِهِ الْعَبْدُ هَذَا الْأَمَلَ؟ قُلْتُ: قُوَّةُ رَغْبَتِهِ فِي الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى، الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهُ. وَمَعْرِفَتُهُ بِخِسَّةِ مَا يُؤَمَّلُ دُونَهُ، وَسُرْعَةِ ذَهَابِهِ. فَيُوشِكُ انْقِطَاعُهُ. وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ كَخَيَالِ طَيْفٍ، أَوْ سَحَابَةِ صَيْفٍ. فَهُوَ ظِلٌّ زَائِلٌ، وَنَجْمٌ قَدْ تَدَلَّى لِلْغُرُوبِ. فَهُوَ عَنْ قَرِيبٍ آفِلٌ. قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ إِنَّمَا أَنَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا وَقَالَ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ: بِمَ تَرْجِعُ؟ فَشَبَّهَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ الْآخِرَةِ بِمَا يَعْلَقُ عَلَى الْإِصْبَعِ مِنَ الْبَلَلِ حِينَ تُغْمَسُ فِي الْبَحْرِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُوتِيهَا رَجُلٌ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَوْتُ: لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَسُرُّهُ. ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَإِذَا لَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ- أَوْ غَيْرُهُ-: نَعِيمُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهِ فِي جَنْبِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ: أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ فِي جَنْبِ جِبَالِ الدُّنْيَا. وَمَنْ حَدَّقَ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. فَكَيْفَ يَلِيقُ بِصَحِيحِ الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ: أَنْ يَقْطَعَهُ أَمَلٌ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ الْحَقِيرِ عَنْ نَعِيمٍ لَا يَزُولُ، وَلَا يَضْمَحِلُّ؟ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ طَلَبِ مَنْ نِسْبَةُ هَذَا النَّعِيمِ الدَّائِمِ إِلَى نَعِيمِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالْفَرَحِ بِقُرْبِهِ، كَنِسْبَةِ نَعِيمِ الدُّنْيَا إِلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} فَيَسِيرٌ مِنْ رِضْوَانِهِ- وَلَا يُقَالُ لَهُ يَسِيرٌ- أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا. وَفِي حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ إِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ- سُبْحَانَهُ- لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، حَتَّى يَتَوَارَى عَنْهُمْ. فَمَنْ قَطَعَهُ عَنْ هَذَا أَمَلٌ، فَقَدْ فَازَ بِالْحِرْمَانِ، وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِغَايَةِ الْخُسْرَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. قَوْلُهُ " وَلَا تَعُوقُهُ أُمْنِيَّةٌ " الْأُمْنِيَّةُ: هِيَ مَا يَتَمَنَّاهُ الْعَبْدُ مِنَ الْحُظُوظِ. وَجَمْعُهَا أَمَانِيٌّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَمَلِ أَنَّ الْأَمَلَ يَتَعَلَّقُ بِمَا يُرْجَى وُجُودُهُ. وَالْأُمْنِيَّةُ: قَدْ تَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يُرْجَى حُصُولُهُ. كَمَا يَتَمَنَّى الْعَاجِزُ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ. وَالْأَمَانِيُّ الْبَاطِلَةُ: هِيَ رُءُوسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ. بِهَا يَقْطَعُونَ أَوْقَاتَهُمْ وَيَلْتَذُّونَ بِهَا، كَالْتِذَاذِ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْمُسْكِرِ، أَوْ بِالْخَيَالَاتِ الْبَاطِلَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ. وَلَا يَرْضَى بِالْأَمَانِيِّ عَنِ الْحَقَائِقِ إِلَّا ذَوُو النُّفُوسِ الدَّنِيئَةِ السَّاقِطَةِ. كَمَا قِيلَ: وَاتْرُكْ مُنَى النَّفْسِ لَا تَحْسَبْهُ يُشْبِعُهَا *** إِنَّ الْمُنَى رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ. وَأُمْنِيَّةُ الرَّجُلِ تَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ هِمَّتِهِ وَخِسَّتِهَا. وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ " إِنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ، وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى هِمَّتِهِ " وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ. وَالْعَارِفُونَ يَقُولُونَ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يَطْلُبُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: ذَوْقُ الْإِرَادَةِ طَعْمَ الْأُنْسِ. فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ. وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ. وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ. الْإِرَادَةُ وَصْفُ الْمُرِيدِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ الْأُولَى وَصْفُ حَالِ الْعَابِدِ الَّذِي ذَاقَ بِتَصْدِيقِهِ طَعْمَ وَعْدِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَدَّ فِي الْعِبَادَةِ. وَأَعْمَالِ الْبِرِّ، لِثِقَتِهِ بِالْوَعْدِ عَلَيْهَا. وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: ذَاقَتْ إِرَادَتُهُ طَعْمَ الْأُنْسِ. فَهِيَ حَالُ الْمُرِيدِ. وَلِهَذَا عَلِقَ حَالُ صَاحِبِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى: بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ. وَعَلِقَ حَالُ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: بِالْأُنْسِ بِاللَّهِ. وَالْأُنْسُ بِهِ سُبْحَانَهُ أَعْلَى مِنَ الْأُنْسِ بِمَا يَرْجُوهُ الْعَابِدُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ. فَإِذَا ذَاقَ الْمُرِيدُ طَعْمَ الْأُنْسِ جَدَّ فِي إِرَادَتِهِ، وَاجْتَهَدَ فِي حِفْظِ أُنْسِهِ، وَتَحْصِيلِ الْأَسْبَابِ الْمُقَوِّيَةِ لَهُ. فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ: أَيْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ يَشْغَلُهُ عَنْ سُلُوكِهِ، وَسَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ، لِشِدَّةِ طَلَبِهِ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ أُنْسُهُ، الَّذِي قَدْ ذَاقَ طَعْمَهُ، وَتَلَذَّذَ بِحَلَاوَتِهِ. وَالْأُنْسُ بِاللَّهِ: حَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ. وَهِيَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِحْسَانِ، تَقْوَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: دَوَامُ الذِّكْرِ، وَصِدْقُ الْمَحَبَّةِ، وَإِحْسَانُ الْعَمَلِ. وَقُوَّةُ الْأُنْسِ وَضَعْفُهُ: عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْقُرْبِ. فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ مِنْ رَبِّهِ أَقْرَبَ، كَانَ أُنْسُهُ بِهِ أَقْوَى. وَكُلَّمَا كَانَ مِنْهُ أَبْعَدَ، كَانَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَشَدَّ. قَوْلُهُ " وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ " الْعَارِضُ الْمُفْسِدُ: هُوَ الَّذِي يَعْذِلُ الْمُحِبَّ، وَيَلُومُهُ عَلَى النَّشَاطِ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ وَطَاعَتِهِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، وَالْوُقُوفِ مَعَهُ دُونَ مَطْلَبِهِ الْعَالِي. فَهُوَ كَالَّذِي يَجِيءُ عَرَضًا يَمْنَعُ الْمَارَّ فِي طَرِيقِهِ عَنِ الْمُرُورِ، وَيَلْفِتُهُ عَنْ جِهَةِ مَقْصِدِهِ إِلَى غَيْرِهَا. وَهَذَا الْعَارِضُ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُوَ إِرَادَةُ السِّوَى. فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ عَارِضٌ. وَإِرَادَةُ السِّوَى: تُوقِفُ السَّالِكَ، وَتُنَكِّسُ الطَّالِبَ، وَتَحْجُبُ الْوَاصِلَ. فَإِيَّاكَ وَإِرَادَةَ السِّوَىوَإِنْ عَلَا. فَإِنَّكَ تُحْجَبُ عَنِ اللَّهِ بِقَدْرِإِرَادَتِكَ لِغَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} وقال تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقال تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}. قَوْلُهُ " وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ " الْكَدَرُ: ضِدُّ الصَّفَاءِ. وَالتَّفْرِقَةُ: ضِدُّ الْجَمْعِيَّةِ. وَالْجَمْعِيَّةُ: هِيَ جَمْعُ الْقَلْبِ وَالْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ بِحَالِ الْأُنْسِ، خَالِيًا مِنْ تَفْرِقَةِ الْخَوَاطِرِ. وَالتَّفْرِقَةُ مِنْ أَعْظَمِ مُكَدِّرَاتِ الْقَلْبِ. وَهِيَ تُزِيلُ الصَّفَاءَ الَّذِي أَثْمَرَهُ لَهُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ. فَإِنَّ الْقَلْبَ يَصْفُو بِذَلِكَ. فَتَجِيءُ التَّفْرِقَةُ. فَتُكَدِّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الصَّفَاءَ، وَتُشَعِّثَ الْقَلْبَ. فَيَجِدُ الصَّادِقُ أَلَمَ ذَلِكَ الشَّعَثِ وَأَذَاهُ. فَيَجْتَهِدُ فِي لَمِّهِ، وَلَا يُلَمُّ شَعَثُ الْقُلُوبِ بِشَيْءٍ غَيْرِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ. فَهُنَاكَ يُلَمُّ شَعَثُهُ، وَيَزُولُ كَدَرُهُ، وَيَصِحُّ سَفَرُهُ. وَيَجِدُ رُوحَ الْحَيَاةِ، وَيَذُوقُ طَعْمَ الْحَيَاةِ الْمَلَكِيَّةِ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ. وَذَوْقُ الْهِمَّةِ: طَعْمَ، الْجَمْعِ. وَذَوْقُ الْمُسَامَرَةِ: طَعْمَ الْعِيَانِ. الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ تِلْكَ بَقَاءٌ مَعَ الْأَحْوَالِ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ: خُرُوجٌ وَفَنَاءٌ عَنِ الْأَحْوَالِ. فَإِنَّ الْمُتَمَكِّنَ فِي حَالِ فَنَائِهِ عَنِ الْأَسْبَابِ- أَعْمَالًا كَانَتْ، أَوْ أَحْوَالًا- هُوَ الَّذِي يَجِدُ طَعْمَ الِاتِّصَالِ حَقِيقَةً. فَإِنَّهُ عَلَى حَسَبِ تَجَرُّدِهِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ يَكُونُ اتِّصَالُهُ. وَعَلَى حَسَبِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا يَكُونُ انْقِطَاعُهُ. وَكُلَّمَا تَمَكَّنَ فِي جَمْعِ هَمِّهِ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَجَدَ لَذَّةَ الْجَمْعِ عَلَيْهِ، وَذَاقَ طَعْمَ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِهِ. فَالِانْقِطَاعُ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُوَ أُنْسُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَالِالْتِفَاتُ إِلَى مَا سِوَاهُ. وَالِاتِّصَالُ: تَجْرِيدُ التَّعَلُّقِ بِهِ وَحْدَهُ. وَالِانْقِطَاعُ عَمَّا سِوَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا. فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ كَلَامِهِ. فَقَوْلُهُ " ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ " اسْتِعَارَةٌ، وَإِلَّا فَالذَّائِقُ هُوَ صَاحِبُ الِانْقِطَاعِ، لَا نَفْسَ الِانْقِطَاعِ. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ذَاقَ الِانْقِطَاعَ وَالِاتِّصَالَ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ هُوَ الْمَحْجُوبُ، وَالْمُتَّصِلَ هُوَ الْمُشَاهِدُ بِقَلْبِهِ، الْمُكَاشِفُ بِسِرِّهِ. وَأَحْسَنُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالِاتِّصَالِ: التَّعْبِيرُ بِالْقُرْبِ. فَإِنَّهَا الْعِبَارَةُ السَّدِيدَةُ الَّتِي ارْتَضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِالْوَصْلِ وَالِاتِّصَالِ: فَعِبَارَةٌ غَيْرُ سَدِيدَةٍ. يَتَشَبَّثُ بِهَا الزِّنْدِيقُ الْمُلْحِدُ، وَالصَّدِّيقُ الْمُوَحِّدُ. فَالْمُوَحِّدُ يُرِيدُ بِالِاتِّصَالِ الْقُرْبَ. وَبِالِانْفِصَالِ وَالِانْقِطَاعِ الْبُعْدَ. وَالْمُلْحِدُ يُرِيدُ بِهِ الْحُلُولَ تَارَةً وَالِاتِّحَادَ تَارَةً. حَتَّى قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: الْمُنْقَطِعُ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعًا. بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا، لَكِنَّهُ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمُشَاهَدَةِ. فَلَمَّا شَاهَدَ وَجَدَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا. بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا. قَالَ: وَلَيْسَ قَوْلُنَا " لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا " بِسَدِيدٍ. فَإِنَّ الِاتِّصَالَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ. فَلَا الْمَحْجُوبُ مُنْقَطِعًا. وَلَا الْمُكَاشِفُ مُتَّصِلًا. وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَاتٌ لِلتَّقْرِيبِ وَالتَّفْهِيمِ. وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ: مَا بَالُ عِيسِكَ لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا *** وَإِلَامَ ظِلُّكَ لَا يَنِي مُتَنَقِّلَا *** فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَكَ لَمْ يَكُنْ *** إِلَّا إِلَيْكَ إِذَا بَلَغْتَ الْمَنْزِلَا. وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ غَلُظَ حِجَابُهُمْ، وَكَثَفَتْ أَرْوَاحُهُمْ عَنْ هَذَا الشَّأْنِ. فَزَعَمُوا: أَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ وَالْأُنْسَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْقُرْبُ مِنْ دَارِهِ وَجَنَّتِهِ بِالطَّاعَاتِ، وَأُنْسِ الْقَلْبِ بِمَا وَعَدَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَالْبُعْدُ ضِدُّ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْرُبُ مِنْ رَبِّهِ. وَلَا يَبْعُدُ عَنْهُ. وَلَا يَأْنَسُ بِهِ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يُحِبُّهُ. فَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ بِهِ. فَسَارَ هَؤُلَاءِ مُغَرِّبِينَ. وَسَارَ أُولَئِكَ مُشَرِّقِينِ. كَمَا قِيلَ: سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا *** شَتَّانَ بَيْنِ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ وَمِصْبَاحُ الْمُوَحِّدِ السَّالِكِ عَلَى دَرْبِ الرَّسُولِ وَطَرِيقِهِ يَتَوَقَّدُ {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ}. قَوْلُهُ " وَذَوْقُ الْهِمَّةِ: طَعْمَ الْجَمْعِ " جَعَلَ الْهِمَّةَ ذَائِقَةً: وَإِنَّمَا الذَّوْقُ لِصَاحِبِهَا، تَوَسُّعًا. وَ " الْهِمَّةُ " قَدْ عَبَّرَ عَنْهَا الشَّيْخُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهَا " مَا يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ إِلَى الْمَقْصُودِ صِرْفًا " أَيْ حَالَةً وَصْفِيَّةً لَهَا سَطْوَةٌ وَمَلَكَةٌ، تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى الْمَقْصُودِ. وَتَبْعَثُهُ عَلَيْهِ بَعْثًا لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُهُ. فَالْهِمَّةُ عِنْدَهُمْ: طَلَبُ الْحَقِّ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْجَمْعُ شُهُودُ الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي تَفْنَى فِيهَا رُسُومُ الْمُشَاهِدِ. وَهَذَا جَمْعٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ. وَأَعْلَى مِنْهُ: الْجَمْعُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ جَمْعُ قَلْبِهِ وَهَمِّهِ وَسِرِّهِ عَلَى مَحْبُوبِهِ وَمَرَاضِيهِ وَمُرَادِهِ مِنْهُ. فَهُوَ عُكُوفُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَا يَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. فَإِذَا ذَاقَتِ الْهِمَّةُ طَعْمَ هَذَا الْجَمْعِ: اتَّصَلَ اشْتِيَاقُ صَاحِبِهَا، وَتَأَجَّجَتْ نِيرَانُ الْمَحَبَّةِ وَالطَّلَبِ فِي قَلْبِهِ. وَيَجِدُ صَبْرَهُ عَنْ مَحْبُوبِهِ مِنْ أَعْظَمِ كَبَائِرِهِ. كَمَا قِيلَ: وَالصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي الْمُوَاطِنِ كُلِّهَا *** إِلَّا عَلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا يُحْمَدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ " إِنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ. وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى هِمَّتِهِ ". فَلِلَّهِ هِمَّةُ نَفْسٍ قَطَعَتْ جَمِيعَ الْأَكْوَانِ، وَسَارَتْ فَمَا أَلْقَتْ عَصَا السَّيْرِ إِلَّا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ. تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَسَجَدَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ سَجْدَةَ الشُّكْرِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَلَمْ تَزَلْ سَاجِدَةً حَتَّى قِيلَ لَهَا {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}. فَسُبْحَانَ مَنْ فَاوَتَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هِمَمِهِمْ، حَتَّى تَرَى بَيْنَ الْهِمَّتَيْنِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ. بَلْ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ أَسْفَلِ سَافِلِينَ وَأَعْلَى عِلِّيِّينَ. وَتِلْكَ مَوَاهِبُ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. قَوْلُهُ " وَذَوْقُ الْمُسَامَرَةِ: طَعْمَ الْعِيَانِ " مُرَادُهُمْ بِالْمُسَامَرَةِ: مُنَاجَاةُ الْقَلْبِ رَبَّهَ، وَإِنْ سَكَتَ اللِّسَانُ، فَلَذَّةُ اسْتِيلَاءِ ذِكْرِهِ تَعَالَى، وَمَحَبَّتِهِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، وَحُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأُنْسِهِ بِهِ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُهُ وَيُسَامِرُهُ، وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ تَارَةً، وَيَتَمَلَّقُهُ تَارَةً، وَيُثْنِي عَلَيْهِ تَارَةً، حَتَّى يَبْقَى الْقَلْبُ نَاطِقًا بِقَوْلِهِ: أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لَهُ بِذَلِكَ. بَلْ يَبْقَى هَذَا حَالًا لَهُ وَمَقَامًا. وَلَا يُنْكَرُ وُصُولُ الْقَوْمِ إِلَى هَذَا. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِذَا بَلَغَ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَأَنَّهُ يَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ. فَهَكَذَا مُخَاطَبَتُهُ وَمُنَاجَاتُهُ لَهُ. لَكِنَّ الْأَوْلَى الْعُدُولُ عَنْ لَفْظِ الْمُسَامَرَةِ إِلَى الْمُنَاجَاةِ فَإِنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَا. وَعَبَّرَ بِهِ عَنْ حَالِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ. فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. فَلَا تَعْدِلْ عَنْ أَلْفَاظِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَإِنَّهَا مَعْصُومَةٌ، وَصَادِرَةٌ عَنْ مَعْصُومٍ، وَالْإِجْمَالُ وَالْإِشْكَالُ فِي اصْطِلَاحَاتِ الْقَوْمِ وَأَوْضَاعِهِمْ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: مَنْزِلَةُ اللَّحْظِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: (بَابُ اللَّحْظِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}. قُلْتُ: يُرِيدُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- بِالِاسْتِشْهَادِ بِالْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يُرِيَ مُوسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ كَمَالِ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ مَا يَعْلَمُ بِهِ أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَشَرِيَّةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَا تَثْبُتُ لِرُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ عِيَانًا. لِصَيْرُورَةِ الْجَبَلِ دَكًّا عِنْدَ تَجَلِّي رَبِّهِ سُبْحَانَهُ أَدْنَى تَجَلٍّ. كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} قَالَ حَمَّادٌ: هَكَذَا- وَوَضَعَ الْإِبْهَامَ عَلَىمَفْصِلِ الْخِنْصَرِ الْأَيْمَنِ- فَقَالَ حُمَيْدٌ لِثَابِتٍ: أَتُحَدِّثُبِمِثْلِي هَذَا؟ فَضَرَبَ ثَابِتٌ صَدْرَ حُمَيْدٍ ضَرْبَةً بِيَدِهِ. وَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُ بِهِ، وَأَنَا لَا أُحَدِّثُ بِهِ؟ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ: هُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الشَّيْخَ اسْتَشْهَدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَابِ اللَّحْظِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْجَبَلِ حِينَ تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ. فَرَأَى أَثَرَ التَّجَلِّي فِي الْجَبَلِ دَكًّا. فَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا. قَالَ الشَّيْخُ: " اللَّحْظُ: لَمْحٌمُسْتَرِقٌ " الصَّوَابُ قِرَاءَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى الصِّفَةِ بِالتَّخْفِيفِ. فَوَصَفَ اللَّمْحَ بِأَنَّهُمُسْتَرِقٌ كَمَا يُقَالُ: سَارَقْتُهُ النَّظَرَ. وَهُوَ لَمْحٌ بِخُفْيَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْمَلْمُوحُ. وَلِهَذَاالِاسْتِرَاقِ أَسْبَابٌ. مِنْهَا: تَعْظِيمُ الْمَلْمُوحِ وَإِجْلَالُهُ. فَالنَّاظِرُيُسَارِقُهُ النَّظَرَ. وَلَا يُحِدُّ نَظَرَهُ إِلَيْهِ إِجْلَالًا لَهُ. كَمَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُحِدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ إِجْلَالًا لَهُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ. وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ لَمَا قَدَرْتُ. لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ. وَمِنْهَا: خَوْفُ اللَّامِحِ سَطْوَتَهُ. وَمِنْهَا مَحَبَّتُهُ. وَمِنْهَا الْحَيَاءُ مِنْهُ. وَمِنْهَا ضَعْفُ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ عَنِ التَّحْدِيقِ فِيهِ. وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ السَّبَبُ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُقْرَأَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. أَيْ نَظَرًا يَسْتَرِقُّ صَاحِبَهُ. أَيْ يَأْسِرُ قَلْبَهُ وَيَجْعَلُهُ رَقِيقًا- أَيْ عَبْدًا مَمْلُوكًا لِلْمَنْظُورِ إِلَيْهِ- لِمَا شَاهَدَ مِنْ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، فَاسْتَرَقَّ قَلْبَهُ. فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِقِّهِ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ وُقُوعِ لَحْظِهِ عَلَيْهِ. فَهَكَذَا صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ إِذَا لَاحَظَ بِقَلْبِهِ جَلَالَ الرُّبُوبِيَّةِ. وَكَمَالَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَكَمَالَ نُعُوتِهِ، وَمَوَاقِعَ لُطْفِهِ وَفَضْلِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ: اسْتَرَقَّ قَلْبَهُ لَهُ وَصَارَتْ لَهُ عُبُودِيَّةٌ خَاصَّةٌ.
قَالَ: وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا. وَهِيَ تَقْطَعُ طَرِيقَ السُّؤَالِ، إِلَّا مَا اسْتَحَقَّتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ إِظْهَارِ التَّذَلُّلِ لَهَا. وَتُنْبِتُ السُّرُورَ، إِلَّا مَا يَشُوبُهُ مِنْ حَذَرِ الْمَكْرِ. وَتَبْعَثُ عَلَى الشُّكْرِ إِلَّا مَا قَامَ بِهِ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَقِّ الصِّفَةِ. الشَّيْخُ عَادَتُهُ فِي كُلِّ بَابٍ أَنْ يَقُولَ: " وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ ". وَقَالَ هَاهُنَا: " وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ " فَعَيَّنَ " هَذَا الْبَابَ " هُنَا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَبْوَابِ. لِأَنَّ اللَّحْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ لِحَظِّ الْبَصَرِ، وَلَحْظِ الْبَصِيرَةِ. وَالشَّيْخُ إِنَّمَا أَرَادَ هَاهُنَا هَذَا الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ كَلَامَهُ فِيهِ خَاصَّةً. وَهُوَ لَمَّا صَدَّرَ بِالْآيَةِ وَالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِيهَا: إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْأَمْرِ بِنَظَرِ الْعَيْنِ، اسْتَدْرَكَ كَلَامَهُ. وَقَالَ: اللَّحْظُ الَّذِي نُشِيرُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ لَحْظُ الْعَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ " مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا " الْفَضْلُ: هُوَ الْعَطَاءُ الْإِلَهِيُّ. وَ " السَّبْقُ " هُوَ مَا سَبَقَ لَهُ بِالتَّقْدِيرِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وَهَذَا الْكَلَامُ يُفَسَّرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا رَأَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ قَدْ سَبَقَ بِهِ تَقْدِيرُهُ- فَهُوَ وَاصِلٌ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ- سَكَنَ جَأْشُهُ. وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ. وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. وَأَنَّهُ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ وَلِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا. {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}. فَإِذَا تَيَقَّنَ ذَلِكَ، وَذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ بِهِ: قَطَعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الطَّلَبِ مِنْ رَبِّهِ. لِأَنَّ مَا سَبَقَ لَهُ بِهِ الْقَدَرُ كَائِنٌ وَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ اسْتَدْرَكَ الشَّيْخُ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سُؤَالِ رَبِّهِ، وَالطَّلَبِ مِنْهُ. فَقَالَ: " إِلَّا مَا اسْتَحَقَّتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ إِظْهَارِ التَّذَلُّلِ لَهَا " أَيْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ سُؤَالَهُ وَطَلَبَهُ يَجْلِبُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ. وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَحْذَرُهُ. فَإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدِ اسْتَقَرَّ بِوُصُولِ الْمَقْدُورِ إِلَيْهِ، سَأَلَهُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ. وَلَكِنْ يَكُونُ سُؤَالُهُ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ، وَإِظْهَارِ فَقْرِ الْعُبُودِيَّةِ، وَذُلِّهَا بَيْنَ يَدَيْ عِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ. فَإِنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ وَيَرْغَبَ إِلَيْهِ. لِأَنَّ وُصُولَ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ مَوْقُوفٌ عَلَى سُؤَالِهِ. بَلْ هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِهِ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا تَوَسُّطِ سُؤَالِهِ وَطَلَبِهِ. بَلْ قَدَّرَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِسُؤَالِهِ وَالطَّلَبِ مِنْهُ، إِظْهَارًا لِمَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، وَاعْتِرَافًا بِعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَكَمَالِ غِنَى الرَّبِّ، وَتَفَرُّدِهِ بِالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا غِنَى لَهُ عَنْ فَضْلِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَيَأْتِي بِالطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ إِتْيَانَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِطَلَبِهِ وَسُؤَالِهِ شَيْئًا. وَلَكِنَّ رَبَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَيُرْغَبَ إِلَيْهِ، وَيُطْلَبَ مِنْهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}. وَقَالَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}، وَقَالَ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}، وَقَالَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وَقَالَ: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}. وَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ مِنْ فَضْلِهِ. وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَافِيَةِ ". وَقَالَ: " إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ. فَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِهِ. وَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ. وَقَالَ مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ بِهَا أَحَدَ ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ حَاجَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا. قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَاللَّهُ أَكْثَرُ. وَقَالَ لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى- فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ. فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مِنْ كَسَوْتُهُ. فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ. فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي. فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَّا السُّجُودُ: فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ. وَلَكِنْ أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ. فَإِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ عَلِمْتُ أَنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ. وَفِي هَذَا يَقُولُ الْقَائِلُ: لَوْ لَمْ تُرِدْ بَذْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ *** مِنْ جُودِ كَفِّكَ مَا عَوَّدْتَنِي الطَّلَبَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ تَذَلُّلَ عَبِيدِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُؤَالَهُمْ إِيَّاهُ، وَطَلَبَهُمْ حَوَائِجَهُمْ مِنْهُ، وَشَكْوَاهُمْ إِلَيْهِ، وَعِيَاذَهُمْ بِهِ مِنْهُ، وَفِرَارَهُمْ مِنْهُ إِلَيْهِ. كَمَا قِيلَ: قَالُوا أَتَشْكُو إِلَيْهِ *** مَا لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ فَقُلْتُ رَبِّي يَرْضَى *** ذُلَّ الْعَبِيدِ لَدَيْهِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: تَذَاكَرْتُ: مَا جِمَاعُ الْخَيْرِ؟ فَإِذَا الْخَيْرُ كَثِيرٌ: الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ. وَإِذَا هُوَ فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا أَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى مَا فِي يَدِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تَسْأَلَهُ، فَيُعْطِيَكَ. فَإِذَا جِمَاعُ الْخَيْرِ: الدُّعَاءُ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ غَلِطَ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ: طَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ يَجْعَلُ الدُّعَاءَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ. قَالُوا: فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهِ، دَعَا الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَدْعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى حُصُولِهِ، دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ. وَلَمَّا رَأَوُا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْآثَارَ قَدْ تَظَاهَرَتْ بِالدُّعَاءِ وَفَضْلِهِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَطَلَبِهِ، قَالُوا: هُوَ عُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ. لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمَطْلُوبِ أَلْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ اللَّهُ. وَلَهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: ظَنَّتْ أَنَّ بِنَفْسِ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ يُنَالُ الْمَطْلُوبُ، وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِحُصُولِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ. وَرُبَّمَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ شُهُودُهُمْ: أَنَّ هَذَا السَّبَبَ مِنْهُمْ وَبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فَعَلُوهُ، وَأَنَّ نُفُوسَهُمْ هِيَ الَّتِي فَعَلَتْهُ وَأَحْدَثَتْهُ. وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، فَرُبَّمَا غَابَ عَنْهُمْ شُهُودُ كَوْنِ ذَلِكَ بِاللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ، لَا بِهِمْ وَلَا مِنْهُمْ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَرَّكَهُمْ لِلدُّعَاءِ. وَقَذَفَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ. وَأَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ. فَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ غَالِطَتَانِ أَقْبَحَ غَلَطٍ. وَهُمَا مَحْجُوبَتَانِ عَنِ اللَّهِ. فَالْأُولَى: مَحْجُوبَةٌ عَنْ رُؤْيَةِ حِكْمَتِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَنَصْبِهَا لِإِقَامَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ بِهَا. فَحِجَابُهَا كَثِيفٌ عَنْ مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ. وَالثَّانِيَةُ: مَحْجُوبَةٌ عَنْ رُؤْيَةِ مِنَنِهِ وَفَضْلِهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ. وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ لِلْعَبْدِ وَلَا قُوَّةَ لَهُ- بَلْ وَلَا لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ- إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ. وَأَنَّهُ لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَقَوْلُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى: إِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ قُدِّرَ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ، وَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُقَدَّرْ فَلَا مَطْمَعَ فِي حُصُولِهِ. جَوَابُهُ، أَنْ يُقَالَ: بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ، لَمْ تَذْكُرُوهُ. وَهُوَ أَنَّهُ قُدِّرَ بِسَبَبِهِ. فَإِنْ وُجِدَ سَبَبُهُ وُجِدَ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُهُ لَمْ يُوجَدْ. وَمِنْ أَسْبَابِ الْمَطْلُوبِ: الدُّعَاءُ وَالطَّلَبُ اللَّذَيْنِ إِذَا وُجِدَا وُجِدَ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِمَا. كَمَا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْوَلَدِ: الْجِمَاعُ. وَمِنْ أَسْبَابِ الزَّرْعِ: الْبَذْرُ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ هُوَ الْحَقُّ. وَيُقَالُ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ: لَا مُوجِبَ إِلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ هَاهُنَا سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُهَا. فَهُوَ الَّذِي جَعَلَ السَّبَبَ سَبَبًا. وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَ عَلَى السَّبَبِ حُصُولِ الْمُسَبَّبِ. وَلَوْ شَاءَ لِأَوْجَدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ السَّبَبِ. وَإِذَا شَاءَ مَنْعَ سَبَبِيَّةِ السَّبَبِ، وَقَطَعَ عَنْهُ اقْتِضَاءَ أَثَرِهِ. وَإِذَا شَاءَ أَقَامَ لَهُ مَانِعًا يَمْنَعُهُ عَنِ اقْتِضَاءِ أَثَرِهِ، مَعَ بَقَاءِ قُوَّتِهِ فِيهِ. وَإِذَا شَاءَ رَتَّبَ عَلَيْهِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ. فَالْأَسْبَابُ طَوْعُ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ وَقُدْرَتِهِ، وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ. يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ. فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي كَلَامِهِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَاحَظَ بِعَيْنِ قَلْبِهِ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ رَبِّهِ مِنْ جَزِيلِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، وَلَا سَبَبَ مِنَ الْعَبْدِ أَصْلًا. فَإِنَّهُ سَبَقَتْ لَهُ تِلْكَ السَّابِقَةُ وَهُوَ فِي الْعَدَمِ. لَمْ يَكُنْ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ- شَغَلَتْهُ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةُ بِطَلَبِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ عَنِ الطَّلَبِ مِنْهُ. وَقَطَعَتْ عَلَيْهِ طَرِيقَ السُّؤَالِ، اشْتِغَالًا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَمُطَالَعَةِ مِنَّتِهِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ. لَا لِأَنَّ مَسْأَلَتَهُ وَالطَّلَبَ مِنْهُ نَقْصٌ. بَلْ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَمْرَيْنِ، بَلِ اسْتِغْرَاقُهُ فِي شُهُودِ الْمِنَّةِ وَسَبْقِ الْفَضْلِ قَطَعَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ. وَهَذَا لَا يَكُونُ مَقَامًا لَازِمًا لَهُ لَا يُفَارِقُهُ. بَلْ هَذَا حُكْمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
يَعْنِي: أَنَّ هَذَا اللَّحْظَ مِنَ الْعَبْدِ يُنْبِتُ لَهُ السُّرُورَ، إِذَا عَلِمَ أَنَّ فَضْلَ رَبِّهِ قَدْ سَبَقَ لَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَبِأَحْوَالِهِ وَتَقْصِيرِهِ، عَلَى التَّفْصِيلِ. وَلَمْ يَمْنَعْهُ عِلْمُهُ بِهِ: أَنْ يُقَدِّرَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ. فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ إِذْ أَنْشَأَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ هُوَ جَنِينٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدَّرَ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْجُودِ مَا قَدَّرَهُ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْهُ. بَلْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَقْتَضِي قَطْعَ ذَلِكَ وَمَنْعَهُ عَنْهُ. فَإِذَا شَاهَدَ الْعَبْدُ ذَلِكَ: اشْتَدَّ سُرُورُهُ بِرَبِّهِ، وَبِمَوَاقِعِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَهَذَا فَرَحٌ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}. فَفَضْلُهُ: الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْعِلْمُ وَالْقُرْآنُ. وَهُوَ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ: أَنْ يَفْرَحَ بِذَلِكَ وَيُسَرَّ بِهِ. بَلْ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ: أَنْ يَفْرَحَ بِالْحَسَنَةِ إِذَا عَمِلَهَا وَأَنَّ يُسَرَّ بِهَا. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فَرَحٌ بِفَضْلِ اللَّهِ، حَيْثُ وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهَا، وَأَعَانَهُ عَلَيْهَا وَيَسَّرَهَا لَهُ. فَفِي الْحَقِيقَةِ: إِنَّمَا يَفْرَحُ الْعَبْدُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ: الْفَرَحُ بِاللَّهِ، وَالسُّرُورُ بِهِ. فَيَفْرَحُ بِهِ إِذْ هُوَ عَبْدُهُ وَمُحِبُّهُ. وَيَفْرَحُ بِهِ سُبْحَانَهُ رَبًّا وَإِلَهًا، وَمُنْعِمًا وَمُرَبِّيًا، أَشَدَّ مِنْ فَرَحِ الْعَبْدِ بِسَيِّدِهِ الْمَخْلُوقِ الْمُشْفِقِ عَلَيْهِ، الْقَادِرِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَيَطْلُبُهُ مِنْهُ. الْمُتَنَوِّعُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَالذَّبِّ عَنْهُ. وَسَيَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- تَمَامُ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ السُّرُورِ. قَوْلُهُ " إِلَّا مَا يَشُوبُهُ مِنْ حَذَرِ الْمَكْرِ " أَيْ يُمَازِجُهُ. فَإِنَّ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ يَبْسُطُ النَّفْسَ وَيُنَمِّيهَا. وَيُنْسِيهَا عُيُوبَهَا وَآفَاتِهَا وَنَقَائِصَهَا. إِذْ لَوْ شَهِدَتْ ذَلِكَ وَأَبْصَرَتْهُ لَشَغَلَهَا ذَلِكَ عَنِ الْفَرَحِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرَحَ بِالنِّعْمَةِ قَدْ يُنْسِيهِ الْمُنْعِمَ. فَيَشْتَغِلُ بِالْخِلْعَةِ الَّتِي خَلَعَهَا عَلَيْهِ عَنْهُ. فَيَطْفَحُ عَلَيْهِ السُّرُورُ، حَتَّى يَغِيبَ بِنِعْمَتِهِ عَنْهُ. وَهُنَا يَكُونُ الْمَكْرُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ مِنَ الْيَدِ لِلْفَمِ. وَلِلَّهِ كَمْ هَاهُنَا مِنْ مُسْتَرِدٍّ مِنْهُ مَا وَهَبَ لَهُ عَزَّةً وَحِكْمَةً! وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَحْمَةً بِهِ. إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى تِلْكَ الْوِلَايَةِ لَخِيفَ عَلَيْهِ مِنَ الطُّغْيَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} فَإِذَا كَانَ هَذَا غِنًى بِالْحُطَامِ الْفَانِي، فَكَيْفَ بِالْغِنَى بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ؟ فَصَاحِبُ هَذَا إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ حَذَرُ الْمَكْرِ: خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلَبَهُ وَيَنْحَطَّ عَنْهُ. وَ " الْمَكْرُ " الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْهُ: أَنْ يُغَيِّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ شُهُودَ أَوَّلِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ وَمِنَّتِهِ وَفَضْلِهِ، وَأَنَّهُ مَحْضُ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ بِهِ وَحْدَهُ، وَمِنْهُ وَحْدَهُ. فَيَغِيبُ عَنْ شُهُودِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وقوله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَيُغَيِّبُهُ عَنْ شُهُودِ ذَلِكَ. وَيُحِيلُهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فِي كَسْبِهِ وَطَلَبِهِ. فَيُحِيلُهُ عَلَى نَفْسِهِ الَّتِي لَهَا الْفَقْرُ بِالذَّاتِ، وَيَحْجُبُهُ عَنِ الْحِوَالَةِ عَلَى الْمَلِيءِ الْوَفِيِّ الَّذِي لَهُ الْغِنَى التَّامُّ كُلُّهُ بِالذَّاتِ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَكْرِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَلَوْ بَلَغَ الْعَبْدُ مِنَ الطَّاعَةِ مَا بَلَغَ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ هَذَا الْحَذَرُ. وَقَدْ خَافَهُ خِيَارُ خَلْقِهِ، وَصَفْوَتِهِ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ شُعَيْبٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدْ قَالَ لَهُ قومه: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}- إِلَى قوله: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} فَرَدَّ الْأَمْرَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ، وَمَعْرِفَةً بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وُوُقُوفًا مَعَ حَدِّ الْعُبُودِيَّةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقَوْمِهِ- وَقَدْ خَوَّفُوهُ بِآلِهَتِهِمْ- فَقَالَ: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} فَرَدَّ الْأَمْرَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ: هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَمِّنِّي مَكْرَكَ؟ فَكَانَ بَعْضُ السَّلَفُ يَدْعُو بِذَلِكَ. وَمُرَادُهُ: لَا تَخْذُلْنِي، حَتَّى آمَنَ مَكْرَكَ وَلَا أَخَافَهُ، وَكَرِهَهُ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ مُطَرِّفٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا تُنْسِنِي ذِكْرَكَ، وَلَا تُؤَمِّنِّي مَكْرَكَ. وَلَكِنْ أَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُنْسِنِي ذِكْرَكَ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ آمَنَ مَكْرَكَ، حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ تُؤَمِّنُنِي. وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَنْ أُحِيلَ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَدْ مُكِرَ بِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ- مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ طَرِيفٍ الْمِعْوَلِيِّ حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: وَجَدْتُ هَذَا الْإِنْسَانَ مُلْقًى بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ. فَإِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ خَيْرًا: جَبَذَهُ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خَيْرًا: وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ. وَمَنْ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ فَقَدْ هَلَكَ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: لَوْ أُخْرِجَ قَلْبِي فَجُعِلَ فِي يَدِي هَذِهِ فِي الْيَسَارِ. وَجِيءَ بِالْخَيْرِ فَجُعِلَ فِي هَذِهِ الْيُمْنَى. ثُمَّ قُرِّبْتُ مِنَ الْأُخْرَى مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أُولِجَ فِي قَلْبِي شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَضَعُهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرَحَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَكْرِ، مَا لَمْ يُقَارِنْهُ خَوْفٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}. وَقَالَ قَوْمُ قَارُونَ لَهُ {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} فَالْفَرَحُ مَتَى كَانَ بِاللَّهِ، وَبِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ، مُقَارِنًا لِلْخَوْفِ وَالْحَذَرِ: لَمْ يَضُرَّ صَاحِبَهُ، وَمَتَى خَلَا عَنْ ذَلِكَ: ضَرَّهُ وَلَا بُدَّ. قَوْلُهُ: وَيَبْعَثُ عَلَى الشُّكْرِ إِلَّا مَا قَامَ بِهِ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَقِّ الصِّفَةِ. هَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ أَنَّ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةَ تَبْعَثُهُ عَلَى الشُّكْرِ لِلَّهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فِي كُلِّ حِينٍ، إِلَّا مَا عَجَزَتْ قُدْرَتُهُ عَنْ شُكْرِهِ. فَإِنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ لِنَفْسِهِ بِحَقِّ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ، وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ. فَتِلْكَ الْمُلَاحَظَةُ تَبْسُطُ لِلْعَبْدِ الشُّكْرَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ بِهِ. فَإِنَّ شُكْرَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ: نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ. فَهِيَ تَسْتَدْعِي شُكْرًا آخَرَ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ الشُّكْرُ نِعْمَةٌ أَيْضًا. فَيَسْتَدْعِي شُكْرًا ثَالِثًا. وَهَلُمَّ جَرًّا. فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِ الرَّبِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَلَا يَشْكُرُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ. فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعْمَةِ وَبِشُكْرِهَا. فَهُوَ الشَّكُورُ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ سَمَّى عَبْدَهُ شَكُورًا. فَمِدْحَةُ الشُّكْرِ فِي الْحَقِيقَةِ: رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ، وَمَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ. فَهُوَ الشَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ. فَمَا شَكَرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ، مَعَ كَوْنِ الْعَبْدِ عَبْدًا وَالرَّبِّ رَبًّا. فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي كَلَامِهِ. الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللَّحْظَ يَبْسُطُهُ لِلشُّكْرِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ وَفِعْلُهُ. لَا الشُّكْرُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَفِعْلُهُ. فَإِنَّهُ سَمَّى نَفْسَهُ بِالشَّكُورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} وقال أَهْلُ الْجَنَّةِ {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} فَهَذَا الشُّكْرُ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ. وَلَا يَبْعَثُ الْعَبْدَ عَلَى الْمُلَاحَظَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنَّهُ: إِذَا لَاحَظَ سَبْقَ الْفَضْلِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، عَلِمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِ لِلشُّكْرِ. فَإِنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ. كَمَا قَالَ مُوسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا رَبِّ، هَلَّا سَاوَيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُشْكَرَ. وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الشُّكْرَ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ، جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، مُحْسِنٌ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، صَبُورٌ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ، قَوِيٌّ، وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ. فَكَذَلِكَ هُوَ شَكُورٌ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ. فَمُلَاحَظَةُ الْعَبْدِ سَبْقَ الْفَضْلِ تُشْهِدُهُ صِفَةَ الشُّكْرِ. وَتَبْعَثُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِفِعْلِ الشُّكْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
|